ثمّة أمران يعيقان الفهم الكافي لانعكاسات التحوّلات الحاصلة في المنطقة على لبنان. الأمر الأوّل أنّ ديناميكيات هذه التحوّلات ومآلاتها لم تتّضح على نحو تامّ بعد. والأمر الثاني أنّ كيفيّة انعكاس هذه التحوّلات على مواقف القوى الداخلية ما يزال يكتنفها الغموض.
علاقات جديدة؟
طرحت هذه التحوّلات أسئلة عن الشكل الجديد الذي ستأخذه علاقات القوى الداخلية مع القوى الإقليمية، كلّ بحسب تحالفاته. والأمر لا يقتصر على وليد جنبلاط وسمير جعجع حليفَيْ السعودية التقليديَّين اللذين يعاديان النظام السوري الذي طبّعت الرياض علاقاتها معه. لكنّ استبعاد الأمين العامّ للحزب توقيع اتفاق بين السعودية وإيران قبل أيام قليلة من توقيعه لا يطرح سؤالاً عن موقف الحزب الضمنيّ من هذا الاتفاق وحسب، بل وعن حضور الحزب في دائرة القرار الإيراني بعدما كان الانطباع السائد أنّ الحزب جزءٌ أساسيٌّ منها. وأمّا استقالة علي شمخاني الذي مثّل إيران في مفاوضات بكين وصولاً إلى الاتفاق فهي تطرح سؤالاً عن تموضع الحزب إزاء صراع الأجنحة داخل النظام الإيراني، وعن تأثير هذا التموضع في انعكاسات التحوّلات في المنطقة على موقف الحزب في لبنان.
إرباك إضافيّ
أيّاً يكن أمر هذه التحوّلات فهي تشكّل عوامل إرباك مستجدّة في الداخل اللبناني لا يمكن إغفالها، وتضاف إلى عوامل الإرباك والتأزّم القديمة، ومنها الآن تعقيدات الخريطة البرلمانية.
اللعبة الرئاسية ما تزال مقفلة حتّى الآن ما دام الحزب لم يعطِ أيّ إشارة جدّيّة إلى قبوله التراجع عن دعم فرنجية الذي لا يقبل به باسيل مطلقاً
لا يطيل تعذّر تأمين نصابَيْ الحضور والانتخاب على أيّ طرف أمد الفراغ الرئاسي وحسب، بل يتيح للقوى السياسية رفع سقف مواقفها والمناورة إلى الحدّ الأقصى، باعتبار أنّ أهمية أيّ قوّة سياسية الآن تزداد كلّما أصبح من الأصعب تجاوزها لإنجاز الاستحقاق الرئاسي.
يبدو أنّ جبران باسيل قد فهم جيّداً هذه المعادلة منذ بداية المعركة الرئاسية، لكنّه الآن يحاول الإفادة منها إلى الحدّ الأقصى، باعتبار أنّ التطوّرات الحاصلة في المنطقة قد تكون مؤاتية له إذا أحسن “اللعب”، أو في أقلّ تقدير بدأ يتصرّف على هذا الأساس.
باسيل يتقدّم
إذا كان الحزب هو اللاعب الأبرز في المعركة الرئاسية قبل المتغيّرات الإقليمية وبعدها، فإنّ باسيل تقدّم على غيره من اللاعبين الآخرين بعد هذه المتغيّرات، وأصبح الثاني بعد الحزب في قائمة اللاعبين الرئيسيين في هذه المعركة.
ليس تقدّم باسيل متّصلاً بتموضعه الداخلي بين أفرقاء المعارضة والحزب، فلا يعطي هؤلاء الأفرقاء ما قد يغيظ الحزب، ولا يعطي الحزب ما قد يجعلهم يفقدون الأمل في التوصّل إلى اتفاق معه على اسم مرشّح للرئاسة.
الواقع أنّ بحث باسيل والمعارضة عن اسم للرئاسة لن يصل إلى أيّ مكان بمعزل عن حسابات باسيل مع الحزب، أي بمعزل عن الموقف الرئاسي للحزب المتمثّل حتّى الآن في دعم سليمان فرنجية.
اللعبة المقفلة
لذلك اللعبة الرئاسية ما تزال مقفلة حتّى الآن ما دام الحزب لم يعطِ أيّ إشارة جدّيّة إلى قبوله التراجع عن دعم فرنجية الذي لا يقبل به باسيل مطلقاً. وهو ما يجعل استعداد الحزب للمشاركة في جلسة لانتخاب رئيس مرتبطاً بتأكّده من أنّ الجلسة ستفضي إلى انتخاب مرشّحه الزعيم الزغرتاوي.
إنّ وظيفة الاتّفاق بين باسيل والمعارضة على اسم مرشّح ليست تأمين انتخابه، وإنّما خلق أرضيّة للتفاوض مع الحزب على مرشّح ثالث يرضيه. وهو تفاوضٌ يشكّل فيه رئيس التيار الوطني الحرّ حلقة الوصل الرئيسية مع الحزب، ويجعله تفاوضاً ضمنيّاً بين الحزب وباسيل، أي أنّ اتفاق المعارضة وباسيل يؤمّن أرضية تفاوضّية بين الحزب وباسيل. فمن سابع المستحيلات أن ينقلب نائب البترون على الحزب في توقيت إقليميّ مؤاتٍ له، ويريد باسيل أن يكون شريكاً للحزب في جني ثمار التحوّلات الإقليمية، إضافة إلى أنّ الحزب لن يسمح بحصول مفاجآت في أيّ جلسة انتخابية كأن تستطيع المعارضة بالاتفاق مع باسيل انتخاب مرشّحها في تصويت ديمقراطي أصبح أثراً بعد عين. وكلّ الكلام عن استعادة تجربة انتخابات عام 1970 التي انتُخب فيها سليمان فرنجية “الجدّ” بفارق صوت واحد، هو كلام يُغفِل تبدّل “الزمن الأوّلانيّ”.
في محطّة القطار
يجعل كلّ ذلك باسيل يتقدّم على اللاعبين الآخرين، وبالأخصّ على سمير جعجع ووليد جنبلاط الذي قفز مبكراً من القطار السعودي السوري، وفق تعبير الزميل زياد عيتاني. وفي الواقع يبدو باسيل الآن وكأنّه غلب جنبلاط في المنافسة على من يكون بيضة القبّان في الانتخابات الرئاسية. لكنّها غلبة متأرجحة، إذ إنّ التطوّرات المتسارعة داخلياً وخارجياً قد تعيد إنتاج دور مرجّح للجنبلاطية الجديدة، لكن ليس على حساب دور باسيل الصاعد من جديد.
رئيس التيار الوطني الحر على علاقة جيّدة مع طهران ودمشق اللتين قيل إنّه سيزورهما قريباً، وهو ما لا تستبعده حركته الداخلية والخارجية
بيد أنّ الدافع الأساسي لحركة باسيل ليس داخلياً وحسب، بل إنّ نائب البترون يقيم حساباته على قاعدة أنّه الطرف الداخلي، وتحديداً المسيحي، الأكثر قدرة على تلقّف التحوّلات الإقليمية، باعتبار أنّ غريمه سمير جعجع لا يستطيع أن يركب القطار السعودي السوري مرتاحاً، وإن لم يقفز منه مثل جنبلاط، لكنّه قد لا يجد له مقعداً فيه. بينما باسيل مستعدّ أن يركب فيه، لا بل هو يتلهّف إلى الصعود إليه والذهاب إلى الوجهة التي يقرّرها سائقوه.
رسائل ودّ
رئيس التيار الوطني الحر على علاقة جيّدة مع طهران ودمشق اللتين قيل إنّه سيزورهما قريباً، وهو ما لا تستبعده حركته الداخلية والخارجية. وكان أرسل رسائل ودّ إلى الرياض قبل التحوّلات الحاصلة، كانت أولاها ما جاء في مقابلة مع “أساس” مطلع العام الحالي، ثمّ كرّر الرسالة الأسبوع الماضي عبر جريدة “الشرق الأوسط” السعودية. وكلّ ذلك للقول إنّه الأصلح والأكثر قدرة على مماشاة هذه التحوّلات. حتّى إنّه مستعدّ لتلاوة فعل الندامة أمام أيّ طرف يأخذ مأخذاً عليه، وهو بدأ فعلاً بتلاوته أمام السعوديّين عبر “الشرق الأوسط”.
تمثّل حركة باسيل الجديدة الآن انعكاساً واضحاً للمتغيّرات في المنطقة وإن كانت لم تخرج من دائرة الرهان. لكنّه رهان يبدو أنّ نائب البترون مستعدّ للذهاب به إلى أقصاه، فإمّا يكسبه وإمّا لا تأتي النتائج على قدر توقّعاته. لكن في جميع الأحوال لن يكون الخاسر الأوّل بين الخاسرين وإن لم يكن الرابح الأوّل بين الرابحين. والأكيد أنّه حجز لنفسه موقعاً يكون فيه لاعباً أساسياً في المعركة الرئاسية مباشرة بعد الحزب، مدفوعاً باعتقاده أنّ اللحظة الإقليمية مؤاتية له وعليه الاستثمار فيها ما وسعه ذلك.
… ومرونة أكبر
إذا كان فرنجية يقدّم نفسه الأقدر بين الزعماء الموارنة على تشكيل حلقة ربط داخلية بين الأطراف الإقليمية المتصالحة، فإنّ باسيل يلعب ضدّه ورقة قويّة لا يستطيع الزعيم الزغرتاوي تجاهلها، وهي ورقة التمثيل المسيحي، التي تجعل نائب البترون متقدّماً على فرنجية في إظهار استعداد مسيحي شعبي على مواكبة مناخ المصالحات في المنطقة. وهذا ما يُفقد فرنجية حصريّة التموضع المرن بين الأطراف الإقليمية. مع العلم أنّ باسيل لديه مرونة أكبر في تموضع كهذا باعتبار أنّه ليس محسوباً بالكامل على “الخط” الذي يكبّل فرنجية ويأسره في ماضٍ لا يرغب أحدٌ في العودة إليه، تماماً كما لا يرغب أحد في استعادة تجربة رئاسة ميشال عون.
إقرأ أيضاً: الرئاسة: الحزب ومعارضوه.. في سلّة واحدة
كأنّ ما يحصل بين الرجلين منافسة على السلبيات لا على الإيجابيات. وهل من ملهاة سوداوية أكثر من تلك الدائرة بينهما فيما يغرق البلد بأكمله يوماً بعد يوم في مأساة أكبر تغلّفها قشور السياحة، تماماً كما يغلّف حديث الحزب عن التوافق والحوار بشأن رئاسة الجمهورية جموحه إلى الهيمنة وفرض مرشّحه لرئاسة الجمهورية.
لكنّ كلّ ما يحصل، بين الأدوار الخارجية في الداخل وبين الانتظارات الداخلية للخارج، يشير إلى أنّ الانتظار الأكبر لا يتعلّق بانتخاب رئيس للجمهورية، وإنّما بإعادة صياغة لبنان، هويّةً ونظاماً واقتصاداً ودوراً في المنطقة… أو لا دور!
لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@