ما هي الآليات العربيّة في التحوّلات الدوليّة بعد “جُدّة”؟

مدة القراءة 7 د

اتّسمت الدورة الـ32 لاجتماع الجامعة العربية على مستوى القمّة في جدّة بغياب ممثّلي بعض الدول غير العربية التي كانت تُدعى في السنوات السابقة إلى هذا الاجتماع العربي الرفيع، بصفة مراقب. ولطالما اكتسب حضور هذه الدول صفة رمزية، لكنّه كان مؤشّراً إلى الانفتاح العربي على قوى صاعدة لها مصالح في الإقليم، والعكس صحيح أيضاً، أي أنّ للدول العربية مراهنات على تعزيز الصلات معها.

زيلينسكي بدل دعوة إيران؟
في قمّة جدّة كانت المفاجأة المدوّية الحضور الشخصي للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بعدما اقتصرت الدعوة على الأمم المتحدة، من دون الدول. تفسير بعض المراقبين أنّ القيادة السعودية تفادت بذلك الإحراج لأنّها لو اتّبعت تقليد دعوة ممثلي الدول غير العربية في هذه الدورة، لربّما كان وجَب دعوة إيران، بعد انطلاق المرحلة الجديدة من تحوُّل العلاقة معها من الحالة العدائية إلى حسن الجوار وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول بحكم اتفاق بكين بينها وبين السعودية في آذار الماضي.
تدافعت المفارقات في قمّة جدّة التي بدا واضحاً أنّها تختزل سعي المنظومة العربية بقيادة المملكة العربية السعودية إلى البحث عن نهج يلائم بين تداعيات تموضع العرب في الصراع الدولي بشيء من الاستقلالية، وبين متطلّبات مبدأ تصفير المشاكل بين دول تلك المنظومة. وهو ما اختصره وزير الخارجية السعودي بالقول أنّ المهمة السياسية للقمّة وضع آليات جديدة للتعامل فيما بين الدول العربية وتفاعلها مع التحولات الدولية. من هذه المفارقات يمكن ذكر الآتي:

مقابل عدم دعوة تركيا المنشغلة بانتخاباتها، لم تغب إيران كلّياً. فهي حاضرة بالتعريف السياسي، عبر سوريا بشار الأسد

الحضور الإيراني بواسطة الأسد
1- مقابل عدم دعوة تركيا المنشغلة بانتخاباتها، لم تغب إيران كلّياً. فهي حاضرة بالتعريف السياسي، عبر سوريا بشار الأسد الذي سلّمت الدول العربية الرئيسة باستحالة تحقيق ما كانت تصبو إليه من إبعاده عن طهران، بدليل استباق الأخيرة القمّة باتفاقات “التعاون الاستراتيجي البعيد المدى”، أثناء زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي لدمشق في الثالث من أيّار الجاري. لم يترك الأسد مجالاً للشكّ في أنّ المنظومة العربية قرّرت التعايش، ولو إلى حين، مع النفوذ الإيراني في بلاد الشام، حين قال أثناء زيارته موسكو في 15 آذار الماضي إنّ الدول العربية لم تعد تطالبه بانسحاب إيران من سوريا منذ مدّة. يقود ذلك إلى ترقّب كيفية استعادة الدول العربية، ولا سيما الخليجية، بعضاً من المساحة التي احتلّتها طهران في سوريا سياسياً وأمنيّاً واقتصادياً وديمغرافياً، تحت عنوان عودة سوريا إلى الحضن العربي بعد طول غياب. “الحضور” الإيراني بالواسطة سيكون واحداً من اختبارات مدى تجاوب طهران مع مسار تهدئة الصراعات في المنطقة الذي تطمح إليه الرياض من وراء اتفاق بكين، ولا سيّما أنّ تشجيع القيادة الإيرانية للجانب السعودي على الانفتاح على الأسد كان أحد العوامل التي عجّلت في ذلك.
والحال هذه كان من الطبيعي أن يحلّ مكان الفقرة التي درجت القمم العربية على تضمينها قرارات القمّة منذ عام 2015، والتي تدين التدخّلات الإيرانية في المنطقة، وكذلك “الحزب” المصنّف إرهابياً، أخرى تشير إلى التعاون العربي الإيراني من أجل الاستقرار الإقليمي. وباتت من الماضي اللجنة الوزارية التي شكّلتها الجامعة حينذاك وتولّت اتصالات دولية تحت هذا العنوان.

التنبيه الأميركيّ من التطبيع والتشكيك بالتزام الأسد
2-رفعت الولايات المتحدة الأميركية ما يصفه البعض بـ”البطاقة الصفراء” حيال التطبيع العربي مع نظام بشار الأسد، سواء بمواقفها العلنيّة الصادرة عن وزارة الخارجية والبيت الأبيض، الرافضة لهذا التطبيع، أو بالتصويت السريع على اقتراح قانون معاقبة التطبيع مع نظام الأسد الذي رفعه نواب من الجمهوريين والديمقراطيين، في غضون يومين من تقديمه للكونغرس. لقد كانت سرعة إقراره سابقة وصفتها وسائل إعلام غربية وأميركية بأنّها لم تحدث قطّ. والواضح أنّ الهدف هو استباق قمّة جدّة بنوع من التنبيه إلى عدم التمادي العربي في الانفتاح على الأسد، مع معطيات لدى بعض الأوساط الدولية عن أنّ تطبيق القانون متروك للظروف، خصوصاً أنّ اقراره في مجلس الشيوخ سيتأخر لشهر او شهرين. فموقف الغرب تدرّج من رفض التطبيع مع نظام ارتكب جرائم موثّقة لدى دوله أكثر من تلك التي ارتكبها أيّ نظام، إلى ليونة مشروطة بأن “احصلوا على مقابل من الأسد في شأن الحلّ السياسي وفقاً للقرار الدولي 2254″، مع تقدير تلك الدول صعوبة النجاح في ذلك.

دوليّاً التأمت قمّة جدّة في عجقة قمم دولية أخرى تفوقها أهميّة في إطار التنافس الدولي

إنّ التشكيك الغربي في إمكان حصول الرياض على تنازلات من الأسد مقابل الانفتاح عليه لا يقلّ عن تشكيك بعض العرب ومعظم السوريين المعارضين للنظام. فهؤلاء يكرّرون القاعدة المقتبسة عن وزير الخارجية السوري الراحل وليد المعلّم الذي كان يقول إزاء أيّ تنازل تُقدم عليه دمشق جرّاء ضغوط المجتمع الدولي: “سنغرقهم بالتفاصيل”. وهذا ما حصل في الاجتماعات مع المعارضة، سواء في إطار منصّة أستانا، أو في اجتماعات لجنة تعديل الدستور بعد زهاء 8 جلسات في جنيف من دون أيّ نتيجة، على الرغم من الضغط الروسي على النظام لتسهيل عملها على مدى سنتين. ينطبق التشكيك الغربي ومن قبل بعض العرب في صدقية النظام في دمشق على استعداداته لإعادة النازحين.

التوازن بين الغرب وموسكو
3- على الرغم من عدم دعوة روسيا إلى القمّة، سيزور بوغدانوف الرياض وبعض عواصم المنطقة بعدها، لمواصلة التنسيق معها. فالتعاون بين موسكو والرياض أخذ مساراً جدّياً منذ ما قبل الحرب الأوكرانية في مجال الطاقة في إطار “أوبك بلاس”، وهو ما أغضب الولايات المتحدة بعد نشوء الحرب بسبب امتناع الجانب السعودي عن التجاوب مع طلب إدارة جو بايدن رفع سقف إنتاج النفط لخفض الأسعار العالمية والتخفيف عن كاهل الاقتصادات الغربية وما تتحمّله من تكاليف الدعم المالي الهائل لكييف. لكنّ السعي السعودي إلى التموضع في موقع الوسط من الاستقطاب الدولي بين موسكو وحليفها الاستراتيجي الصين، حتّم دعوة زيلينسكي في سياق الحسابات الشديدة الدقّة لهذا التموضع الهادف إلى خفض تأثير صراعات الدول العظمى وتناقض مصالح الدول المحورية في الإقليم على مسار التنمية الطموح، الذي انخرطت فيه القيادة السعودية الجديدة.

الصراع الغربيّ مع الصين ومفاعيل اتّفاق بكّين
4- سيمضي وقت، ربّما يكون قصير المدى، لمعرفة مفاعيل “استعادة الدور العربي” من خلال قمّة جدّة على الصعيد الإقليمي، والأرجح أنّه سيكون متوسّط المدى وبعيده على الصعيد الدولي، فالقمّة تنعقد في ظلّ تحوّلات متسارعة على هذين الصعيدين. إقليمياً، هل تُفضي الفترة القريبة إلى نوع من تقاسم النفوذ الإقليمي بين مركز الاستقطاب العربي الذي هو السعودية وبين إيران تأسيساً على ما بنته الأخيرة من مواقع متقدّمة في الدول العربية، أم تنكفئ طهران تدريجاً لتعطي الأولوية هي أيضاً للتنمية الداخلية، وهذا مشروط بمساومتها مع الغرب بدءاً من رفع العقوبات وعودتها إلى الانخراط في النظام العالمي؟

إقرأ أيضاً: قمّة السّعوديّة مع العرب!

دوليّاً التأمت قمّة جدّة في عجقة قمم دولية أخرى تفوقها أهميّة في إطار التنافس الدولي. فالزعيم الصيني شي جينبينغ نظّم بدوره أوّل من أمس قمّة آسيوية مصغّرة ضمّت كازاخستان، قرغيزستان، طاجكستان، تركمانستان وأوزبكستان. وهذه الدول الخمس كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي، وبالتالي روسيا، المنشغلة بأوكرانيا. والهدف استباق استخدام الغرب هذه الدول لتهديد استقرار المناطق الصينية المحاذية لها من أجل احتواء نموّ النفوذ الصيني. والقمّة الآسيوية هذه التأمت بالتزامن مع قمّة الدول السبع التي انعقدت في هيروشيما باليابان أمس ردّاً عليها، ومن بين أهدافها تشديد العقوبات على روسيا ومواجهة ما سمّته “نيويورك تايمز” الإصرار الصيني (على التوسّع)، أي أنّ محاولة استعادة الدور العربي تتمّ وسط عالم متحرّك تملأه الصراعات، وهو ما يفرض على المنظومة العربية خيارات صعبة تتجاوز العلاقات البينيّة العربية.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر:  ChoucairWalid@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…