قمّة السّعوديّة مع العرب!

مدة القراءة 6 د

تكشف القمّة العربية في جدّة عن لحظة استراتيجية تمرّ بها المنطقة. يكفي تأمّل مكان انعقادها ورئاسة السعودية لها وكثافة الحضور العربي داخلها وجدلية الملفّات التي فتحتها لاستنتاج ديناميّات قلّما شهدناها في قمم سابقة. وفيما تدافَع المحلّلون لتخيّل مسمّيات للحدث، بدا أنّ القمّة تعبير عن المكانة التي تحتلّها الرياض داخل المساحة العربية الكبرى.
كان واضحاً أنّ القادة العرب أتوا إلى السعودية التي باتت رقماً صعباً في المشهد الدولي العامّ، وأنّ قمّتهم لا بدّ أنّها تنهل من هذا الواقع ومتأثّرة بالحيوية التي أدخلتها الرياض على العمل الدبلوماسي العامّ. 
باتت الصين دولة نفوذٍ وحلٍّ وربطٍ من البوّابة السعودية. ودخلت إيران عصراً جديداً في علاقتها مع العالم العربي من البوّابة السعودية أيضاً. وبدا للعرب أنّ العالم في السنوات الأخيرة متعدّد الأقطاب من البوّابة السعودية أيضاً وأيضاً. يكفي تأمّل حضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قمّة جدّة، قبل توجّهه إلى حضور قمّة مجموعة السبع في هيروشيما في اليابان، لاستنتاج مؤشّر آخر إلى ما يجب أن تكون عليه مكانة المجموعة العربية ومواقفها الوازنة والمتوازنة بشأن نزاعات العالم.

استفاقة عربيّة
من يراقب أعمال القمّة يسهل عليه التعويل على استفاقة عربية بالمعنى العقلاني لا الأيديولوجي الشعاراتيّ، أي أنّ العمل العربي المشترك الذي لطالما كان وهماً بات ضرورة تحتاج إليه كلّ بلدان المنطقة لحسن التعايش مع مجموعات إقليمية أخرى: “شنغهاي”، “آسيان”، “بريكس”، والاتّحادين الأوروبي والإفريقي.. إلخ. وفي البال أنّ منظمة “أوبك بلاس” باتت بدورها رقماً دوليّاً صعباً بقيادة السعودية.

ليس مطلوباً أن تكون المنطقة موحّدة، بل أن تكون بلدان الإقليم في حالة تخاطب ونقاش دائم للوصول إلى مشتركات حتى لو تعذّر التوصّل إلى مشتركات أخرى

يحقّ للمراقب أن يرى في القمّة محاولة لِلَمّ الشمل أو رأب الصدع أو تفعيل العمل المشترك..إلخ، لكنّ القمّة من ألفها إلى يائها هي قمّة السعودية في القول والفعل، في الشكل والمضمون. ونكاد نجزم أنّ القادة العرب لم يأتوا فقط من أجل قمّة تجمعهم بقدر ما أرادوا أن يلتقوا جميعاً مع القيادة في السعودية.

عودة الأسد من دون بيارق
تقود الرياض سعياً حقيقياً لتعويم المنطقة العربية وجعلها قوّة فعل لطالما أُهمل تفعيلها. أسقط “الربيع العربي” أوهام “الأمّة الواحدة” و”المصير الواحد”. باتت قضايا المنطقة بعدد بلدانها. صار لسوريا ولبنان والعراق واليمن والسودان وليبيا قضاياها المصيرية الكبرى. ما زالت فلسطين في قلب القضايا، لكنّه صار لزاماً الاعتراف بالعالم العربي متعدّداً في مصالحه وأجنداته.
في قمّة جدّة جرت إعادة سوريا إلى قاعة القمّة. عاد الرئيس السوري بشار الأسد إلى “النادي العربي” من دون بيارق الشعارات الكبرى. حتى دمشق نفسها التي لطالما جعلت من كلّ جلبة انتصاراً لم تفعل. وضع الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط أمر “العودة” في سياقٍ يكاد يكون مستشرفاً لحلّ سياسيّ لسوريا يلعب العرب دوراً أساسياً مفصليّاً في إيجاده.
تنعقد القمّة متدثّرة بالسقف الذي وضعه اتفاق بكين في 10 آذار الماضي بين السعودية وإيران. تمنّى أحد المتحدّثين على الفضائيات العربية من طهران لو أنّ قادة إيران وتركيا حضروا إلى جدّة. ربّما تلك الحماسة المُعبَّر عنها من طهران مبرَّرة وقد بردت ألسنة منابر إيران وأذرعها وبات وزير خارجيّتها يسعى إلى طرق أبواب القاهرة لتكون باباً آخر للوئام مع العرب جميعاً.
قد لا تفصح سطور البيان الختامي للقمّة عن استثناء لافت يكشف عن الديناميّات الحقيقية لِما حصل في جدّة. أظهر العرب ترحيباً حذراً بتطوّر علاقات تركيا وإيران مع المنطقة. لكنّهم أعادوا من دون لبس تأكيد الموقف من فلسطين ومن قيام دولة عاصمتها القدس الشرقية. شدّدوا على الالتزام بوحدة واستقرار وسيادة سوريا. ويكاد الأمر يتكرّر بالنصّ في ما يتعلّق باليمن وليبيا والسودان. حثّوا على انتخاب رئيس للبنان وتشكيل حكومة تُجري الإصلاحات الضرورية للخروج من الأزمة. مرّوا على عشرات القضايا العربية فتقاطعوا في الموقف ولم يظهر بينهم تباين.
ظهرت في قمّة جدّة همّة حقيقية لاستعادة العرب لملفّاتهم. احتشد المبعوثون الدوليون والأمميون يفتون في القضايا السورية واليمنية والليبية مثلاً، وهم يتدافعون هذه الأيام صوب القضية السودانية. استبقت الرياض القمّة بمبادرة صلح وتفاوض بين المتقاتلين في السودان، واستبقت القمّة قبل ذلك بالتواصل مع دمشق على قاعدة بحث ما هو إنساني وإنقاذي على أن يكون ذلك مدخلاً إلى فتح ملفّ التسوية السياسية بين السوريين. بدا أنّ في الأمر دفعاً باتجاه “تعريب” نزاعات العرب وقضاياهم وجعل معالجتها عربية، وهو ما طال غيابه.

أوروبا الجديدة
كان وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد استشرف في أحد تصريحاته أن يكون الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة. بمعنى آخر، تشكّل المنطقة حاجة للسعودية في ما تذهب وتطمح إليه في “رؤية 2030” وما بعدها. إنّ في الأمر وعياً لأهمية الحاضنة العربية الكبرى لخطط المملكة السعودية في التنمية والسلم والازدهار. ومن راقب متن القمّة واللقاءات التي جرت على هامشها يستنتج دينامية جديدة في إدارة العلاقات بين الدول داخل فضاء واسع. باختصار، يوجد في الرياض وعيٌ لِكَون “السعوديّة أوّلاً” تحتاج إلى أن ترتقي الحاضنةُ العربيةُ لتدافع وتصون مصالحها أوّلاً وأخيراً.
ليس مطلوباً أن تكون المنطقة موحّدة، بل أن تكون بلدان الإقليم في حالة تخاطب ونقاش دائم للوصول إلى مشتركات حتى لو تعذّر التوصّل إلى مشتركات أخرى. من يراقب مسيرة الاتحاد الأوروبي فسيلاحظ أنّ الاختلاف قاعدة والوفاق استثناء، وأنّ كلّ قرار اتُّخذ احتاج إلى ساعات وأيام مضنية من النقاش والتفاوض من دون أن يتوصّل “النادي الأوروبي” يوماً إلى الوحدة السياسية التي لطالما تغنّى العرب في عقود غابرة بقرب تحقّقها حتى باتوا على وشك إعلان دولتهم الواحدة.

إقرأ أيضاً: قمّة التحدّيات والأمل

انتهى ذلك الزمن إلى غير رجعة وبات العرب مدركين لنهائية كياناتهم. انتهى زمن الأطماع المتبادلة لفرض الدمج القومي الكبير. ما شهدناه في جدّة يفصح عن تنامي إيمان مشترك بعمل مشترك يعيد تموضع العالم العربي على نحو أكثر نضجاً وتنسيقاً في العلاقة مع إيران وتركيا وإسرائيل ومع دوائر النفوذ الكبرى بواجهاتها الغربية الأطلسية أو تلك الصينية الروسية ومع المجموعات الصاعدة في العالم.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…