تهبّ رياح جديدة على منطقة الشرق الأوسط. وهي أقرب إلى زلزال جيوسياسي يعيد تشكيل الإقليم وفق ديناميات جديدة إيجابية، في لحظة صاخبة يعيشها النظام العالمي. فقد بدأت قوى الإقليم تستحدث استدارات صارخة في مواقفها ومواقعها وأولويّاتها، وتفتح السدود التي كانت تضع الحواجز بين المحاور الإقليمية. وهذا ما يشكّل مفاجآت غير سارّة لتل أبيب، وخصوصاً الخطوات التالية:
– الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية.
– الهدنة في اليمن وتبادل الأسرى بين الحوثيين والشرعية اليمنية.
– زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان دمشق ولقاؤه الرئيس بشار الأسد. وهي الزيارة الأولى عقب بدايات الثورة السورية.
– إشارات إلى تغيير السعودية سياستها تجاه “حماس” حليفة طهران، بعد سماح المملكة لقيادة مكتب الحركة السياسي بزيارتها لأداء العمرة بعد سنوات من الفتور بين الجانبين.
تهبّ رياح جديدة على منطقة الشرق الأوسط. وهي أقرب إلى زلزال جيوسياسي يعيد تشكيل الإقليم وفق ديناميات جديدة إيجابية، في لحظة صاخبة يعيشها النظام العالمي
سياسة السعوديّة الفلسطينيّة
يعدّ الاتفاق السعودي – الإيراني باكورة هذه التوجّهات الجديدة، ويشكّل مؤشّراً نوعياً إلى حركة الاستدارات النشطة في الإقليم. صحيح أنّ اللحظة السعودية – الإيرانية ما زالت في طور التكوين، لكنّ عدم اكتمالها لا يحول دون وصفها بالتاريخية. فالريح الجديدة التي تهبّ على الرياض وطهران لا تقتصر تجلّياتها على ضفّتي الخليج، بل تطال الإقليم كلّه. ومن المرجّح أن تعيد تصويب الانحرافات التي شابت الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
يبدو جليّاً أنّ القيادة السعودية الجديدة تتبنّى سياسة جديدة من مظاهرها:
– تنويع علاقاتها بين الشرق بزعامة الصين وروسيا، وبين الغرب بزعامة أميركا.
– السعي إلى تصفير الأزمات، من الحرب اليمنية، وعودة سوريا إلى الجامعة العربية، وليس انتهاء بفلسطين، حيث استقبل وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان الرئيس الفلسطيني محمود عباس في جدّة، وجرى التأكيد على ثوابت المملكة: إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلّة في عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وتنفيذ المبادرة العربية كمدخل للسلام الإقليمي.
أولويّة الاقتصاد
يبدو أنّ النظام الإقليمي الجديد في طور توليد نهج جديد في إدارة وتنظيم العلاقات الإقليمية والخلافات والنزاعات، وصولاً إلى تصفير الأزمات، بعيداً عن نيران المذهبيات والأيديولوجيات التي اكتوت بها المنطقة لعقود. فـ”الأولويّات الاقتصادية” باتت عنصراً حاسماً في تقرير وجهة السياسات الخارجية لدول المنطقة، وهذا بالطبع يسير بعكس المصلحة الإسرائيلية.
يرى المحلّل الفلسطيني رجب أبو سرية أنّ “النظام الإقليمي الجديد، أو الشرق الأوسط الجديد، يتشكّل على غير هوى إسرائيل، بالتزامن مع نشوء نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب لم تعد أميركا حليفة وركيزة إسرائيل قطبه الأوحد، بعدما اعتقدت إسرائيل أنّ الثمن الذي دفعته في أوسلو كان كافياً، وإن لم يكن باهظاً، في مقابل تنصيب أميركا زعيماً للنظام العالمي بعد الحرب الباردة”.
يعدّ الاتفاق السعودي – الإيراني باكورة هذه التوجّهات الجديدة، ويشكّل مؤشّراً نوعياً إلى حركة الاستدارات النشطة في الإقليم
صخرة على إسرائيل
لقد سقط الاتفاق السعودي – الإيراني كصخرة كبيرة على إسرائيل، التي تعتبر القوة الأميركية المهيمنة في المنطقة مدماكاً مركزياً لأمنها وغطرستها. وبدا الاتفاق كأنّه يبدّد حلم إسرائيل بإقامة تحالف عربي سنّيّ – دولي ضدّ إيران. ومن شأن الاتفاق أن يفتح الطريق أمام معالجة ملفّات معقّدة كلّفت السعودية أثماناً باهظة واستنزفتها، وفي طليعتها الملف اليمني. وهذا ليس في صالح تل أبيب التي ترى مصلحتها وسرّ بقائها في استنزاف جميع دول المنطقة.
كانت الصدمة الكبرى من نصيب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو الذي كان أهمّ ما لديه من بضاعة يعرضها على الجمهور الإسرائيلي في ما يتعلّق بالساحة الخارجية هو بناء تحالف عربي سنّي مع إسرائيل مدعوم من الولايات المتحدة من أجل لفّ الحبل حول رقبة إيران، وخصوصاً أنّ فكرة إبرام الاتفاقات الإبراهيمية الخليجية – الإسرائيلية التي كان نتانياهو عرّابها أُسِّست على فرضية تحالف الدول الخليجية مع إسرائيل لمواجهة الخطر الإيراني في ظلّ الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة بانسحابها من منطقة الشرق الأوسط.
تأتي مناخات الاتفاق الإيراني – السعودي متناقضة مع الأسباب التي سوّغت وبرّرت اتفاقات أبراهام في شكلها الأمني والاقتصادي بين دول الخليج وإسرائيل. فقد تحوّل الخطر الإيراني من تهديد مباشر ووشيك إلى علاقة تعاون ممكنة مع السعودية في مجال الأمن والاقتصاد.
ترى وسائل إعلام إسرائيلية أنّ تغيّر السياسة السعودية في المنطقة تسبّب بحالة من القلق في إسرائيل. وقالت قناة “كان” الإسرائيلية: “إذا ربطنا النقاط بخصوص المصالحة السعودية مع إيران والتقارب بين السعودية والرئيس السوري بشار الأسد والهدنة في صنعاء، فإنّ القلق هو من نصيب إسرائيل”.
بيت العنكبوت
يقول يوئيل جوزانسكي، الباحث البارز في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، إنّ “التقارب الإيراني – السعودي فتح الباب على نطاق أوسع للتقارب بين المملكة وحركة حماس”. وقال عن الجهود الدبلوماسية السعودية الأخيرة “إنّها هائلة”.
وفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، فإنّ زيارة وفد حركة حماس القريبة من طهران للمملكة انتكاسة لتل أبيب. فهذا التقارب جزء من حملة أكبر لإظهار نفوذ السعودية في العلاقات الإقليمية والدولية.
إقرأ أيضاً: زيت القدس يتوّج الملك تشارلز
من جهة أخرى، تبدو تل أبيب مشغولة بالانقلاب الذي ينفّذه نتانياهو وعصابة الثالوث الجديد لتغيير منظومة القضاء الإسرائيلي، إذ تعيش إسرائيل في الأشهر الأخيرة زلزالاً سياسياً غير مسبوق بسبب تغيير ميزان القوى بين السلطات في الدولة، وكأنّها في أزمة طاحنة لدرجة أنّها باتت توصف ببيت العنكبوت بعد ثمانين سنة على تأسيسها. هذا فيما يحدث تقارب بين السعودية وإيران، وبين عواصم الإقليم ودمشق، وفيما تطمح المملكة إلى بناء دولة حديثة إلى جانب كونها دولة إسلامية. أمّا إيران فخسرت معركة الإلهام الشيعي، في حين أنّ أميركا يفلت العالم من بين أصابعها. من هنا تأتي أهميّة اللحظة التي يتشكّل فيها النظام الإقليمي الجديد بعقلانية لافتة تضع في صدارة حساباتها مصلحة الشعوب، وهو ما لا يناسب إسرائيل.