زيت القدس يتوّج الملك تشارلز

مدة القراءة 6 د

توّجت المملكة البريطانية ملكها الجديد تشارلز الثالث وريثاً لوالدته الملكة إليزابيث، في مشهد أسطوري، في كنيسة “وستمنستر” في لندن. ووضع كبير أساقفة كانتربري، جاستن ويلبي، على رأس تشارلز الثالث تاج القديس إدوارد المصنوع من الذهب الخالص والمرصّع بالأحجار الكريمة والمغطّى بقماش من المخمل الأرجواني.

قبل التتويج الرسمي، جلس الملك تشارلز على عرش القديس إدوارد الذي يعود تاريخه لسبعة قرون، حيث تمّ مسحه بالزيت المقدّس والذي جُلِب خصيصاً من مدينة القدس بفلسطين لهذا الغرض، في مراسم خاصة تسمّى مسحة الزيت المقدّسة.

جرت العادة أن يستخدم ملوك بريطانيا زيت زيتون من فلسطين في مراسم تتويجهم للتبرّك، حيث يتمّ خلال تلك الطقوس دهن جبين وصدر ويدي الملك أو الملكة بهذا الزيت.

خلص الملك تشارلز إلى فكرة في غاية الأهميّة، إذ قال: “إذا كان هناك الكثير من سوء الفهم في الغرب حول طبيعة الإسلام، فهناك أيضاً الكثير من الجهل بما تدين به ثقافتنا وحضارتنا للعالم الإسلامي”

تمّ قطف حبّات الزيتون المستخرَج منه الزيت الذي دُهن به الملك تشارلز، من بساتين دير “مريم المجدلية” المدفونة فيها جدّة الملك تشارلز الأميرة أليس في جبل الطور المعروف بجبل الزيتون شرق القدس، ومن دير “الصعود” على جبل الزيتون، ثمّ تمّ استخراج الزيت من تلك الحبّات بالطرق البدائية في بيت لحم، ثمّ تمّ تكريسه في كنيسة القيامة في القدس، وتعطير الزيت “المقدّس” بالسمسم والورد والياسمين والقرفة وزهرة البرتقال والجاوي وزيت العنبر، قبل إرساله إلى لندن، لاستخدامه في مراسم التتويج.

لم تعرض وسائل الإعلام لقطة مسح الملك تشارلز بالزيت المقدّس على الرغم من كونها اللحظة الأكثر قداسة في حفل التتويج، حيث يطلق عليها قصر باكنغهام اللحظة الخاصة بين الملك والله، ولذلك لا تصوّرها الكاميرات ولا يشاهدها الناس عبر الشاشات، وخُصّص قاطع بثلاثة جوانب لكي تشكّل ساتراً للملك تشارلز أثناء عملية المسح، وتقوم فكرة المسحة على اعتقاد أنّ الملك لا يتمّ تعيينه من قبل الشعب، بل من الله، وهو المفهوم الذي تمّ تبنّيه بقوّة، خاصةً في القرن السابع عشر.

لكنّ فلسطين التي تمّ مسح ملك بريطانيا بزيتها تحمل على أكتافها وطأة تاريخ صنعته بريطانيا، ووعد وزير خارجيّتها بلفور، وكان الملك قد أظهر تعاطفاً مع الفلسطينيين بقوله إنّ “المعاناة الفلسطينية تكسر قلبي”.

نُقل عن مقرّبين من الملك الجديد أنّه يرى أنّ “الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو السبب الأساسي للعداء وللسموم المكبوتة في جميع أنحاء العالم”، معتبراً أنّ “وجود حلّ عادل لها سيؤدّي إلى تغيير حقيقي في الوضع في الشرق الأوسط”.

كان تشارلز قد قام في عام 2018 بأوّل زيارة رسمية لأحد أفراد العائلة المالكة البريطانية لمدينة القدس، حيث تفقّد قبر جدّته الكبرى لأبيه الأميرة أليس باتنبر في جبل الزيتون، التي توفّيت بالمملكة المتحدة عام 1969 ونُقل رفاتها إلى القدس بناءً على توصيتها.

جرت العادة أن يستخدم ملوك بريطانيا زيت زيتون من فلسطين في مراسم تتويجهم للتبرّك، حيث يتمّ خلال تلك الطقوس دهن جبين وصدر ويدي الملك أو الملكة بهذا الزيت

أظهر الملك تشارلز مبكراً انفتاحاً لافتاً على الثقافات والأديان الأخرى، فقد أحدث قبل ثلاثة عقود عاصفة في بريطانيا عندما اعتبر أنّ وظيفة الملك هي أن يكون “حامي الأديان” لا “حامياً للدين”. كما عُرف عن الملك تشارلز علاقته الوثيقة بالعالم العربي والديانة الإسلامية ومعرفته باللغة العربية. وذكر كتاب “تشارلز في الـ70… الأفكار، الآمال، الأحلام” للكاتب البريطاني روبرت جوبسون، أنّ تشارلز “هو أعلم الأسرة الملكية بالثقافة الإسلامية”، قائلاً إنّه “شغوف بالإسلام، وقد سبق أن قرأ القرآن ودرس اللغة العربية”. وأوضح الكتاب أنّ ملك بريطانيا الجديد يرى أنّ “الإسلام يمكن أن يعلّمنا جميعاً طريقة للتفاهم والعيش في العالم، ووصف تشارلز الإسلام بأنّه يمتلك واحدة من أعظم خزائن الحكمة المتراكمة والمعرفة الروحية المتاحة للبشرية، لكن يحجبه التوجّه نحو “المادّية الغربية”، ويرى أنّنا نشارك هذا الكوكب مع بقيّة الخليقة لأنّنا لا نستطيع الوجود بدون شبكة الحياة المتوازنة من حولنا، وهو الأمر الذي يعلّمه الإسلام، معتبراً أنّ تجاهُل هذا الدرس إخلال بالعقد الذي نتشاركه مع الخلق”. وقال إنّ الإسلام “حافظ على نظرة ميتافيزيقية موحِّدة لأنفسنا والعالم من حولنا”، فقدها الغرب بعد الثورة العلمية.

أبدى تشارلز الثالث ملاحظاته عن مساهمة المسلمين في العلم والفنّ، حيث قال في جامعة الأزهر في عام 2006: “علينا أن نتذكّر أنّنا في الغرب مدينون لعلماء الإسلام، فبفضلهم ظلّت كنوز التعلّم التقليدي حيّة خلال العصور المظلمة في أوروبا”.

تحدّث تشارلز في معهد ماركفيلد للتعليم العالي في ليسترشاير عن مساهمة المسلمين في الرياضيات، قائلاً: “يجب على أيّ شخص يشكّ في مساهمة الإسلام والمسلمين في النهضة الأوروبية، أن يحاول القيام ببعض العمليات الحسابية البسيطة باستخدام الأرقام الرومانية كنوع من التمرين”، مضيفاً: “الحمد لله على الأرقام العربية ومفهوم الصفر الذي أدخله علماء الرياضيات المسلمون إلى الفكر الأوروبي”.

إقرأ أيضاً: تشارلز ملكاً وديانا “ملكة” القلوب

أشار موقع “ميدل إيست آي” البريطاني إلى خطاب ألقاه الملك تشارلز عام 2013 أمام المنتدى الاقتصادي الإسلامي العالمي في لندن، حيث عرض تشارلز الثالث معرفة مفصّلة بالتمويل الإسلامي، والفوائد التي يعتقد أنّه يمكن أن يجلبها للأسواق المالية العالمية، حيث قال: “بالتأكيد ستكون فكرة جيدة أن نستكشف كيف يمكن للروح المتأصّلة في “الاقتصاد الأخلاقي” للإسلام أن تمكّننا من اتّباع نهج عادل وأخلاقي تجاه إدارة المخاطر النظامية في الاقتصاد والأعمال والتمويل”.

خلص الملك تشارلز إلى فكرة في غاية الأهميّة، إذ قال: “إذا كان هناك الكثير من سوء الفهم في الغرب حول طبيعة الإسلام، فهناك أيضاً الكثير من الجهل بما تدين به ثقافتنا وحضارتنا للعالم الإسلامي”، وأشار في مركز أُكسفورد للدراسات الإسلامية منذ ما يقرب من 3 عقود إلى أنّ هذا الجهل “فشلٌ ينبع، كما أعتقد، من قيود التاريخ التي ورثناها”.

مواضيع ذات صلة

“دوخة” نيابيّة: جلسة من دون فرنجيّة وجعجع!

“الوضع بدوّخ. المعطيات مُتضاربة ومُتغيّرة كالبورصة. ولا توافق سياسيّاً بالحدّ الأدنى حتى الآن على أيّ اسم لرئاسة الجمهورية”. هي حصيلة مختصرة للمداولات الرئاسية في الأيّام…

جعجع في عين التّينة لإنضاج الرّئاسة؟!

عاثرٌ جدّاً حظّ سليمان فرنجية. مرةً، واثنتيْن وثلاث مرّات، بلغت الرئاسة حلقه، لتُسحب في اللحظات الأخيرة، فيقف على أعتاب القصر عاجزاً عن دخوله، ويعود أدراجه…

يومٌ في دمشق: فرحٌ ممزوج بالقلق

مرّت 14 سنة بالتّمام والكمال عن المرّة الأخيرة التي زُرتُ فيها العاصمة السّوريّة دِمشق، في كانون الأوّل من عام 2010، أي قبل 4 أشهر من…

برّي والرّئاسة: Now or Never

ما كادت تمرّ أيّام قليلة على الإطاحة بالنظام السوري، حتى ظهرت أوّل تداعيات “الانقلاب الكبير” على الرقعة اللبنانية، في شقّها الرئاسي: انقلبت أدوار القوى السياسية،…