ربّما ليس من باب الصدفة أن ينقل السفير السعودي في لبنان وليد بخاري موقفاً غير حاسم لبلاده ويضعه في عهدة المسؤولين. لكأنّ المملكة العربية السعودية لا تريد حسم الموقف من الرئيس اللبناني العتيد قبل عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية.
بكلّ جهدها سعت السعودية إلى تأمين هذه العودة وبخطوات متسارعة أعادتها إلى عضويّتها في الجامعة العربية. دخلت سوريا فخرجت قطر معترضة. إذ تغيّبت عن حضور مؤتمر وزراء الخارجية العرب. لا همّ. الحسابات السعودية والمصالح تتقدّم على خلافات مؤقّتة يمكن حلّها مع الوقت. أوّل المتضرّرين من هذا الخروج الوفد الأمني القطري الذي جال على المسؤولين مستطلعاً أجواء الرئاسة وتفاصيلها. من مسؤول إلى آخر حمل الأسئلة ذاتها: أين أصبحت المباحثات بشأن الرئاسة؟ وما جديدها؟ وما الموقف من المرشّحين؟ طلب من رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الالتزام بانتخاب جوزف عون لرئاسة الجمهورية فكان الجواب: “وهل يقبل باسيل والحزب انتخاب جوزف عون؟”. فقال له: “أنت قدّم الالتزام ولا عليك”. ومن باسيل طلب رأيه المسهب في الأجواء الرئاسية وجلسات انتخاب الرئيس.
إلى أن تنضج الأمور لا تقدُّم يُسجَّل رئاسياً، وقد ضاعفت مواقف بخاري حيرة الحائرين ومُني المراهنون بالخيبة
لكأنّ المطلوب سعودياً ترك من التقاهم بخاري في حيرة من أمرهم حيال موقفها من المرشّح الرئاسي لأسباب عدّة:
-لا تريد المملكة في المرحلة الراهنة الظهور بمظهر المعطّل للاستحقاق الرئاسي أو المعرقل لأجواء الاتفاق المريح مع إيران. لذلك نجد أنّ السياسة ذاتها اتّبعها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان يوم زار بيروت قبل نحو أيام، ثمّ فتح الحزب، من خلال مواقف مسؤوليه، الباب على النقاش في الموضوع الرئاسي متراجعاً عن تهديده بفرنجية أو الفراغ.
قال بخاري إنّه لا فيتو على أيّ مرشّح رئاسي، وإنّ على اللبنانيين الاتفاق على مرشّح لانتخابه، وهو يعلم علم اليقين استحالة الاتفاق داخلياً على اسم المرشّح. فإذا تمّ الاتفاق على مرشّح حلف إيران تتنحّى المملكة جانباً، ليتكرّر سيناريو انتخاب ميشال عون. وإذا انتُخب مرشّح للمعارضة فلن يكون الإيراني مسروراً.
-لا تريد السعودية التصادم مع فرنسا التي لم تتوقّف عن دعم فرنجية والتسويق له، وسفيرتها نصحت المعارضة بمقاربة موضوع الاستحقاق الرئاسي بواقعية. فبات فرنجية مرشّحاً وحيداً طالما لا مرشّح آخر في مواجهته.
ماذا حصل في كليمنصو ومعراب؟
في كليمنصو أظهر بخاري ما يشبه الحياد الإيجابي لبلاده. لم يدخل في الأسماء ولا في التفاصيل. زيارته لم تتضمّن أكثر من تلميحات، تماماً كما زياراته الأخرى. استعان جنبلاط على تفسير ما قاله بخاري بزيارة لرئيس مجلس النواب نبيه بري ناصحاً بما مفاده “لنستغلّ المناخ الإيجابي لدى السعودية وإيران ونذهب للتوافق على مرشّح مقبول من الجميع”.
في تقويم المقرّبين أنّ رئيس الحزب الاشتراكي تراجع ليقف خلف ما يقرّره نجله النائب تيمور جنبلاط رئاسياً، وهي محاولة لرأب الصدع داخل البيت الواحد أو لتجنّب توسّع رقعة الاختلاف في الرأي بين الأب والابن. جنبلاط اللبيب من الإشارة يفهم. تلقّى الإشارة وتصرّف على أساسها: “لا تراهنوا على قرار سعودي واضح، وها هو النظام السوري عاد إلى الجامعة العربية بهمّة العرب أنفسهم”.
قوى سياسية معارضة لفرنجية قالت إنّ جنبلاط قصد عين التينة في محاولة أخيرة من برّي لإقناعه بمرشّح الثنائي قبل أن يُخرجه من المعادلة نهائياً.
في معراب، وعلى الرغم من الأجواء التي تحدّث عنها مسؤولو “القوات”، إلا أنّ مصادر موثوقة تقول إنّ اللقاء مع السفير السعودي لم يكن إيجابياً ولم يدُم طويلاً. الجملة الوحيدة التي كانت مريحة هي تأكيده أنّ بلاده لن ترغم حلفاءها على التصويت لأيّ مرشّح.
بعد انتهاء زيارته ترك عبد اللهيان من التقاهم يتوهون في بحر إشاراته من دون قرار فصل، وهو الذي زار لبنان من أجل رسالة واحدة وحيدة أدّاها لإسرائيل من على الحدود معها تتّصل باللعب الإسرائيلي على حدود إيران
ماذا عن تمام سلام والثنائي الشيعي؟
أوقعت زيارة بخاري المرشّح الحكومي تمّام سلام في حيرة، وجعلته يتراجع خطوات حيال موافقته على عرض لرئاسة الحكومة. فرئيس الحكومة السابق لن يكرّر تجربة رئاسة حكومة في بلد مأزوم بلا مكرمة سعودية.
من وجهة نظر المعارضة لا تغيير في الموقف السعودي ولا تأييد لفرنجية، بل إنّ المملكة حاولت خلق أجواء إيجابية للدفع بالاستحقاق الرئاسي إلى الأمام، ولذا لا خلط أوراق بعد، وقوى المعارضة ما تزال تراهن على ثبوت الرؤية السعودية حيال الرئيس العتيد.
عدم ثبوت الرؤية يعني وقوع الثنائي في ورطة رئاسية بسبب وجود هذا المثلّث المسيحي المعارض لانتخاب فرنجية، ومعه بكركي. ما يزال الحزب يراهن على تغيير في موقف التيار الوطني الحرّ، الرافض بالمطلق الدخول في النقاش مجدّداً في الموضوع على الرغم من الغزل الذي يرسله إلى حزب الله والذي يتلقّاه من عين التينة بالتواتر.
تأكيد برّي المتكرّر لقدرته على تأمين 65 صوتاً لفرنجية غير دقيق في حسابات الحزب، ولو أنّه بات يراهن على أنّ “اللاموقف” السعودي من فرنجية قد يخدمه في تعاطيه مع النواب السُّنّة، مع ميل عدد كبير منهم ضمناً إلى انتخاب فرنجية.
بالموازاة ثمّة تفسير مختلف لغياب الموقف السعودي حيال لبنان ورئاسته على وجه الخصوص، يبنيه أصحابه على استعادة سورية مقعدها في جامعة الدول العربية بعد اثنتي عشرة سنة من الغياب، وهو ما يعدّ انتصاراً لها على الرغم من كلّ التفسيرات. ذلك أن محاولة السعودية إعادتها بالقوّة قبيل القمّة العربية، ولو على حساب قطر، يعني أنّ السعودية لن تدخل في الملف الرئاسي بشكل مباشر لا سلباً ولا إيجاباً قبل أن تعود سوريا إلى جامعة الدول العربية.
الاتفاق مع الأسد.. لا الحزب؟
قد لا تفضّل السعودية انتخاب فرنجية، لكنّها ارتأت دخول الملف الرئاسي من بوّابة عودة سوريا إلى عضوية الجامعة العربية ليكون حوارها مع الدولة الجارة وتتّفق معها على الرئيس وليس مع الحزب بالمباشر. يفضّل السعودي أن تكون رئاسة لبنان شأناً عربياً سيكون له حيّز من البحث في القمّة السورية السعودية المرتقبة عمّا قريب. وإلى “اللاقرار” هناك القرار الثاني المهمّ، وهو عودة لبنان إلى المشاركة في لجنة الأزمة السورية لأوّل مرّة منذ بدأ البحث في أزمة سوريا قبل أشهر.
إقرأ أيضاً: بخاري و”لاءاته” الثلاث
إلى أن تنضج الأمور لا تقدُّم يُسجَّل رئاسياً، وقد ضاعفت مواقف بخاري حيرة الحائرين ومُني المراهنون بالخيبة. أدلى بدلوه ففسّر كلّ طرف ما سمعه بما يتناسب وأجواءه السياسية ورغباته، وهو ما يجعله يتمسّك بموقف ويتصلّب أكثر فأكثر.
بعد انتهاء زيارته ترك عبد اللهيان من التقاهم يتوهون في بحر إشاراته من دون قرار فصل، وهو الذي زار لبنان من أجل رسالة واحدة وحيدة أدّاها لإسرائيل من على الحدود معها تتّصل باللعب الإسرائيلي على حدود إيران. في سوريا كان الهدف الأساس ترتيب زيارة الرئيس الإيراني بأبعادها. بعده عاد بخاري إلى لبنان. تصرّف كالإيراني لا أكثر ولا أقلّ، وشدّد على الثوابت ذاتها، أي اتفاق اللبنانيين والانتخاب لإنهاء الشغور. عموميّات من إيران إلى السعودية ريثما تتوضّح معالم التلاقي السوري السعودي، ومن هناك ستكون البداية.