وصفت مجلّة “الإيكونوميست” البريطانية جزيرة تايوان بأنّها “أخطر مكان على الكرة الأرضية”. جاء هذا الوصف في مقال افتتاحي (أيار من عام 2021) وكأنّه مجرّد نبوءة. الوقائع الحالية تثبت يوماً بعد يوم أنّ تلك النبوءة تكاد تصبح أمراً واقعياً. فالجزيرة التي يبلغ عدد سكّانها 24 مليوناً فقط (عدد سكان الصين 1.3 مليار إنسان) لا تبعد عن البرّ الصيني سوى 160 كيلومتراً فقط، أي أنّها في مرمى الصواريخ الصينية المتوسطة والقريبة المدى. ولا يحمي هذه الجزيرة المتمرّدة سوى المظلّة الأميركية التي تحتمي بها.
تلتزم الولايات المتحدة منذ القرن العشرين الماضي بمبدأ الصين الواحدة. ولكنّها تتصرّف سياسياً وعسكرياً على أنّ الصين “صينان”. كان “الالتزام” السياسي – المعنوي يغلب على “التصرّف السياسي – الاقتصادي” عندما كانت الطريق سالكة بين واشنطن وبكين. كانت تلك الطريق مباشرة أيضاً. إلا أنّها الآن تواجه سدّاً مرتفعاً يتمثّل في التفاهم الصيني – الروسي الذي أقامه الرئيسان الصيني تشي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين من وراء ظهر الرئيس الأميركي جو بايدن وبغفلة عن السياسة الأميركية في الشرق الأقصى.
عندما خرجت الصين من القمقم الذي حُبست فيه طويلاً، حاولت أن تشقّ إلى العالم طريقاً حريريّة امتدّت حتى وصلت إلى أوروبا نفسها. ولكنّ التنافس الاقتصادي والتجاري بين الصين والولايات المتحدة قطع طريق الحرير. فشقّت بكين الطريق إلى موسكو، وشقّت طرقاً أخرى إلى إفريقيا (وأقامت قاعدة عسكرية هي الوحيدة في البحر الأحمر)، وإلى الشرق الأوسط (التسوية بين إيران والمملكة العربية السعودية). وذهبت في تمدّدها المعنوي لتطرق الباب الخلفي للولايات المتحدة في دول أميركا اللاتينية. ومن المؤشّرات المهمّة إلى ذلك قرار البرازيل التحوّل في التعامل المالي من الدولار الأميركي إلى اليوان الصيني. وهو القرار الذي استضاءت به دول عديدة أخرى في وسط وجنوب أميركا أيضاً.
عندما خرجت الصين من القمقم الذي حُبست فيه طويلاً، حاولت أن تشقّ إلى العالم طريقاً حريريّة امتدّت حتى وصلت إلى أوروبا نفسها
من هنا السؤال: هل تردّ الصين على التكتيك الأميركي بتطويقها بدول معادية في شرق آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية والفيلبين وأستراليا، بعمل مماثل يؤدّي إلى تطويق الولايات المتحدة من خلال الانفتاح على دول أميركا الجنوبية والوسطى؟
قد لا يكون هناك أيّ جديد في مبادرة التطويق التي تقوم بها واشنطن. فدول شرق آسيا، وخاصة اليابان وكوريا الجنوبية والفيلبين، لم تكن على وفاق مع الصين. كانت دائماً في حالة حرب أو صراع معها، وفي أقلّ الأوضاع سوءاً في حال تنافس. أمّا دول أميركا الجنوبية فكانت تُعتبر دائماً في الحسابات الأميركية حديقة خلفيّة تابعة، أو مستتبَعة. تتمرّد أحياناً، لكنّها تضطرّ في الحسابات الأخيرة تحت الضغط والابتزاز إلى التراجع والعودة إلى بيت الطاعة في واشنطن. وعندما تمرّدت كوبا على هذه المعادلة كادت تؤدّي بتمرّدها إلى حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (نيكيتا خروتشوف – جون كندي).
منذ أواسط الستّينيات من القرن الماضي، لم تعد كوبا قادرة على التنفّس بسبب الحصار والمقاطعة. دول أميركا اللاتينية الأخرى تعرف ذلك جيّداً. وتعرف أيضاً أنّ ثمن التمرّد مرتفع جدّاً، وأنّ العصا الأميركية لا تكتفي بالتهويل ولا بالتهديد. ولكن هل تدرك الصين ذلك أيضاً وهي تسارع الخطى في انفتاحها على دول أميركا اللاتينية، وهو الانفتاح الذي يأخذ طابعاً تطويقياً للنفوذ الأميركي التقليدي؟
في الستّينيات من القرن العشرين وصلت العلاقات الأميركية – السوفيتية إلى حافة الهاوية النووية عندما اكتشفت موسكو وجود قواعد للصواريخ الأميركية في تركيا (العضو في الحلف الأطلسي) المجاورة لها، ثمّ عندما اكتشفت الولايات المتحدة وجود صواريخ سوفيتية في كوبا المجاورة لها. بدت الدولتان الكبيرتان وكأنّ كلّاً منهما يمسك بعنق الآخر. وكادت عملية الخنق المتبادل تحدث فعلاً لولا بقيّة من الحكمة أدّت إلى سحب الصواريخ من كلّ من تركيا وكوبا.
لا يبدو مثل هذا السيناريو قابلاً للتنفيذ اليوم، لا في أوكرانيا بين الاتحاد الروسي والحلف الأطلسي، ولا في تايوان بين الصين والولايات المتحدة.
من أجل ذلك لم يعد الحديث عن حرب عالمية ثالثة، ولا حتى الحديث عن استخدام السلاح النووي، يرسم علامات استفهام هنا، أو علامات استنكار هناك. بل يكاد يتحوّل إلى حديث “منطقي”. فروسيا لا تحتمل أن تكون أوكرانيا جزءاً من الحلف الأطلسي وهي تمتدّ عميقاً في أحشائها حتى أبواب الكرملين. والصين لا تتحمّل أن تكون تايوان منفصلة عن الوطن الأمّ وقد تحوّلت الى حاملة طائرات أميركية متقدّمة تهدّد الأمن القومي الصيني. فإذا كانت أوكرانيا استدرجت روسيا وأميركا إلى مشارف مجابهة نووية في أوروبا، فإنّ تايوان قد تستدرج الصين وأميركا إلى مجابهة نووية في الشرق الأقصى.. والمجابهتان واحدة.
إقرأ أيضاً: حرب من دون قتال
انطلاقاً من هنا يبرز السؤال التالي: إذا فتحت جهنّم النووية أبوابها في الشرق وفي الغرب، فماذا يبقى من المؤتمرات العالمية حول البيئة لخفض حرارة الكرة الأرضية ولو درجة واحدة؟! فلا الرئيس الروسي بوتين هو خروتشوف، ولا الرئيس الأميركي بايدن هو كندي، ولا الترسانة النووية الأميركية ولا الترسانة النووية الروسية هما اليوم كما كانتا في الستّينيات من القرن الماضي، ولا صين الأمس التي كانت غارقة (أو مغرّقة) في الأفيون هي صين اليوم التي وصلت إلى الجانب الخلفي من القمر، وحتى تايوان “أخطر مكان على الكرة الأرضية” لم تعد جزيرة نائية يلجأ إليها الهاربون من حرب أهلية صينية، بل أصبحت المصدر الأوّل في العالم للتكنولوجيا الإلكترونية الحديثة التي تتوقّف عليها منصّات إطلاق الصواريخ النووية التي تتحكّم بإطلاقها كلّ من بكين وموسكو وواشنطن.. من أجل تحقيق هدف لا يمتّ إلى هدف الإنسانية بصِلة، وهو خفض الحرارة للمحافظة على إمكانيات استمرار الحياة، الأمر الذي قد ينقلنا من مرحلة تحويل تايوان إلى أخطر مكان على الكرة الأرضية إلى مرحلة تحويل الكرة الأرضية إلى أخطر مكان في مجرّة درب التبّانة وربّما في الكون!!