الروبل يتمادى: عملة رقميّة.. ضدّ العقوبات

مدة القراءة 7 د

نتيجة الحرب الروسية – الأوكرانية، جمّد الغرب الأصول الروسية (640 مليار دولار من الاحتياطيات)، ومُنعت شركات روسيا من التعامل مع مصارفه المركزية، وفُصلت عن نظام “سويفت” لتحويل الأموال، وأعلنت شركات الدفع بالبطاقات “فيزا” و”ماستركارد” و”أميركان إكسبرس” تعليق عملياتها داخل روسيا.

دفع كلّ هذا بموسكو صوب الاعتماد أكثر على العملات الرقمية التي وجدت فيها ملاذاً آمناً لتخطّي العقوبات، خصوصاً في علاقتها مع الصين الرائدة في مجال العملات المشفّرة وبقيّة شركائها الدوليين.

هذه العملات غير خاضعة لأيّ جهة (بيتكوين وغيرها)، ومنصّات التداول بأغلبها أميركية. وعلى سبيل المثال، حجبت منصّتا بينانس (Binance) وكوينبيس (Coinbase)، الشهيرتان في تداول العملات الرقمية، حسابات الخاضعين للعقوبات، لكنّهما في المقابل شدّدتا على حقّ الأفراد الروس في استمرار حساباتهم.

نتيجة الحرب الروسية – الأوكرانية، جمّد الغرب الأصول الروسية (640 مليار دولار من الاحتياطيات)، ومُنعت شركات روسيا من التعامل مع مصارفه المركزية، وفُصلت عن نظام “سويفت” لتحويل الأموال

تمّ حجب أكثر من 25 ألف حساب روسي ممّن طالتهم العقوبات، وأكّدت تقارير روسية سحب بعض الروس ثرواتهم الرقمية واستثمارها في دول أخرى “ذات وضع محايد” بالنسبة إلى الحرب، ومنها الإمارات وأستراليا. إلا أنّ المبالغ المهرّبة ضئيلة مقارنة مع الثروات المحجوزة.

من هذا المنطلق ارتأت روسيا أن تنشىء عملتها الرقمية الخاصة، وهي “الروبل الرقمي”. وهي أوّل عملة رقمية تنشئها “دولة” وترعاها، بعدما كانت العملات الرقمية أقرب إلى “سوق سوداء” تكبر حول العالم. ومن هنا خطت الخطوة الأولى من الداخل الروسي: تحوُّل الروبل الورقي إلى روبل رقمي.

ستكون رقمنة الروبل فرصة مميّزة لاستخدام تلك العملة لتصبح أكثر انتشاراً في التجارة مع الدول الواقعة في الشرق الأقصى. ونظراً إلى كون روسيا أكبر شريك تجاري للصين في الصادرات والواردات، فإنّ الصين ستكون جاهزة لمزيد من التعامل مع روسيا بعدما اعتمدت الروبل الرقمي وسيلة تبادل مقبولة.

هدف روسيا هو التخلّص من اعتمادها على العملات التقليدية، وبالتحديد الدولار الأميركي، وتحويل المزيد من أموالها إلى الروبل الرقمي. وما دفعها نحو هذا الأمر هي “المبادرة الفردية” من مواطنين روس لجأوا إلى عملات رقمية بعدما طالت العقوبات المصارف وتدهور الاقتصاد. فيوم انخفض الروبل إلى مستويات قياسية أمام الدولار (وصلت إلى 40% في بداية الحرب)، ارتفع معدّل شراء الروس للبيتكوين بالروبل الروسي (خلال أيام زاد بنسبة 204%).

أمّا عن الفرق بين العملات الإلكترونية والعملات الرقمية (المشفّرة)، فالأولى بحاجة إلى رابط مع المصارف ليتمكّن الأفراد أو الشركات من استخدامها، وهي على غرار العملات الورقية تخضع لرقابة الأجهزة الرقابية المصرفية في السحوبات وحركة الحسابات. بينما تلك الرقمية مشفّرة ولا يمكن لأحد الاطّلاع على التداولات بها إلا الجهة المبرمِجة للمنصّة، أي في حالة الروبل الرقمي هذه الجهة هي المصرف المركزي الروسي.

ما الذي تغيّر في روسيا؟

اعتباراً من أول نيسان الجاري، بات بإمكان عدد من عملاء المصارف الروسية التعامل بالروبل الرقمي. هذا النوع من العملات سيكون متاحاً في المستقبل أمام جميع سكّان روسيا، وستتحوّل مدفوعات الموازنة الروسية، بما في ذلك البدلات والمعاشات التقاعدية ورواتب الموظّفين والتحويلات بين الكيانات القانونية، إلى الروبل الرقمي.

الشكل الجديد من العملة الوطنية لروسيا هو فئة ثالثة من العملة، إلى جانب العملة النقدية (الورقية) وغير النقدية (الإلكترونية)، تجمع بين خصائص الفئتين وتتميّز بالخصائص التالية:

1- لا يمكن إصدارها رسمياً إلا من قبل مصرف روسيا المركزي بخلاف العملات المشفّرة الرائجة في العالم.

2- مرتبطة بقيمة الروبل، بمعنى أنّ كلّ 1 روبل رقمي يساوي 1 روبل نقدي، وسعر صرفه مدعوم باحتياطيات الذهب والعملات الأجنبية الموجودة في المصرف المركزي.

الاختبارات تمّت بنجاح

سبق أن أجرى المصرف المركزي الروسي اختبارات تجريبية على الروبل الرقمي مع 15 مصرفاً روسياً، واختبر المنصّة الخاصة به، ومكان تخزين تلك العملة وحساباتها.

لا يحظر القانون الروسي شراء العملات المشفّرة الرائجة في العالم، لكنّه يُمنع إصدار عملة مشفّرة على المنصّات المحلّية أو استخدامها وسيلة للدفع داخل الدولة. ومع الروبل الرقمي، سيبدو الأمر مختلفاً، إذ سيتمّ تسجيل النقود الإلكترونية وفق قانون “نظام الدفع الوطني”، على عكس العملات المشفّرة المفتوحة وغير الخاضعة لأيّ جهات رسمية، والتي تختلف عن النقود الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية في مختلف بلدان العالم. فتلك العملات مثل بيتكوين وغيرها:

– لا تحتوي على جهة إصدار واحدة، وبالتالي فإنّ ضمانات حماية حقوق المستخدمين تبقى مجهولة.

– تخضع قيمة أصولها لتقلّبات كبيرة وخطيرة بخلاف العملات الرقمية الثابتة.

– العملات المشفّرة غير قابلة للاستخدام في أغلب دول العالم ولا يمكن استخدامها وسيلة لدفع أو شراء السلع.

ما هو الدافع الروسيّ؟

يقول المصرف المركزي الروسي إنّ الهدف من طرح هذا النوع من العملة هو السير قُدُماً في اتجاه “رقمنة القطاع المالي” برمّته، لكن بالتدريج. ويذكّر بأنّ الروبل الرقمي يمتاز بالمزايا التالية:

– التوفّر بكثرة: محفظة العميل غير مرتبطة بمصرف، لكنّها متاحة عبر أيّ تطبيق أو خدمة مصرفية موصولة بالهاتف المحمول، وإذا كان العميل مؤسّسة مالية، فإنّ محفظتها ستكون متّصلة بالمنصّة مباشرة. وهذا يقي العملاء من سيف العقوبات على روسيا وعملتها.

– الكفاءة: ستكون المنصّة متوفّرة على مدار الساعة، وطوال أيام الأسبوع من دون أيّ تأخير، وبذلك سيتمكّن العملاء من إجراء المعاملات وتنفيذ الدفوعات، سواء للأفراد أو بين الشركات، على الفور.

– الكلفة المتدنّية: من خلال تلك المنصّة، ستكون تكلفة الصيانة والدعم أقلّ من كلّ الأشكال الإلكترونية أو الورقية.

– الأمان: العمليات ستُنفّذ على منصّة واحدة محميّة بالتشفير، ووحده مصرف روسيا المركزي قادر على مراقبة التعاملات وحماية المحافظ الرقمية وسلامة الأموال فيها.

– الاستهداف: من خلال تلك المنصّة، يضمن المصرف المركزي الروسي أنّ الروبلات الرقمية ستُنفق على أغراض محدّدة مثل الأعمال التجارية والعقود الحكومية والاستهلاك الخاص بالحياة اليومية، بعيداً عن كلّ الممنوعات والتهريب أو المضاربة بالعملات.

يقول المصرف المركزي الروسي إنّ الهدف من طرح هذا النوع من العملة هو السير قُدُماً في اتجاه “رقمنة القطاع المالي” برمّته، لكن بالتدريج

يضاف إلى هذا كلّه أنّ الدولة الروسية ستتمكّن من خلال اعتماد الروبل الرقمي من ضمان المزايا التالية:

– التحكّم في إنفاق الموازنة بشكل أفضل.

– التقليل من تكلفة إدارة مدفوعات الموازنة.

– حفظ أموال المواطنين في حال إفلاس المصرف الوسيط.

– منع المعاملات المشبوهة.

– تبسيط المدفوعات عبر الحدود (يمكن استخدامها للدفع في دول أخرى).

– خلق منتجات وخدمات مالية مبتكرة (العقود الذكية، الخوارزميات).

– ضمان السعر الموحّد في أيّ مؤسّسة حكومية، حيث سيتمكّن المواطنون العاديون من الوصول إلى المحافظ الإلكترونية بالأسعار نفسها.

من سيستخدم الروبل الرقميّ؟

في المرحلة الأولى، ستكون النقود الرقمية متاحة لعدد صغير من العملاء، وهم من بين “العملاء المخلصين” أو موظّفي المؤسّسات الائتمانية. سيُختارون طوعياً ولهم الحقّ بالمشاركة أو الرفض. استخدام الروبل الرقمي متاح حالياً عبر الإنترنت فقط، فيما الدفع من دون اتصال بالإنترنت وباستخدام المحفظة ما زال قيد البحث.

إقرأ أيضاً: زيادة الرواتب: ارتفاع بالدولار أو انخفاض باحتياطات “المركزي”

التوقيت الدقيق لتحويل المعاشات التقاعدية كلّها إلى الروبل الرقمي قد يستغرق بين 3 و5 سنوات، وخلال الفترة الانتقالية سيكون للمتقاعدين الحقّ في الاختيار بين حساب رقمي أو حساب عادي.

بعض المتقاعدين، وليس كلّهم، سيحصلون بصورة أوّلية على معاشاتهم التقاعدية رقمياً. مبلغ المدفوعات سيكون معادلاً للمعاش التقاعدي العاديّ، وسيكون متاحاً لهم التحويل والإنفاق، ولن يختلف المعاش الرقمي عن المعاش المعتاد إلّا في شكل الروبل.

*كاتب لبناني مقيم في موسكو

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…