4 رواتب هي مقدار الزيادة التي أقرّتها الحكومة لموظّفي القطاع العام في جلستها يوم الثلاثاء الفائت. وقبل أقلّ من سنة، كانت أقرّت أيضاً زيادة راتبين، فرفعت بذلك حجم كتلة الرواتب التي يتكفّل مصرف لبنان بدفعها بالدولار عبر منصّته “صيرفة”، من 1.3 تريليون ليرة إلى 3.3 تريليونات.
هذا يعني أنّ كلّ زيادة بمقدار “راتب” واحد هي زيادة قرابة 1 تريليون ليرة شهرياً. ولمّا كانت وزارة المالية والحكومة، مضافاً إليهما مصرف لبنان، يتعاملون مع مسألة الرواتب مثل التعامل مع سرّ من أسرار الدولة، فإنّ التقديرات الأوّلية تشير إلى أنّ كتلة الرواتب ستكون بنحو 7.3 تريليونات ليرة لبنانية. وهذه التريليونات يُفترض أن يدفعها مصرف لبنان بالدولار. ولأنّه يدفعها عبر منصّة “صيرفة” بسعر 60 ألف ليرة للدولار الواحد، فهذا يعني أنّ كتلة الدولارات، التي سيدفعها “المركزي” على شكل رواتب، سترتفع من نحو 55 مليون دولار إلى قرابة 121 مليون دولار شهرياً، أو بزيادة 100% تقريباً أو أكثر بقليل.
حينذاك ربّما يواجه مصرف لبنان صعوبة في جمع القدر نفسه من الدولارات التي كان يجمعها قبل موجة “دولرة” الأسعار
كيف ستُدفع الرواتب؟
أمام مصرف لبنان 3 خيارات لدفع الرواتب أحلاها مرّ:
1- التوظيفات الإلزامية: سيستمرّ مصرف لبنان بالصيام عن التدخّل بالسوق. ولذلك سيلجأ إلى استخدام التوظيفات الإلزامية، التي بدأت تشير أرقام مصرف لبنان إلى استنزافها إلى ما دون نسبة الـ14%. فأحدث الإحصاءات تلفت إلى أنّ الودائع تبلغ قرابة 94 مليار دولار، وبالتالي تبلغ التوظيفات التي تمثّل 14% من الودائع 13.1 مليار دولار، لكنّها انخفضت اليوم إلى أقلّ من 10 مليارات (يقال 9.4 مليارات تقريباً)، وهذا يعني أنّ المركزي قد تخطّى الخطّ الأحمر بأكثر من 3 مليارات دولار وبات “يسلّك أموره” وفق نسبة 10%. وربّما يعود إلى المطالبة بخفض تلك النسبة إلى ما يتناسب مع حجم احتياطاته، أي إلى نحو 10%، من أجل تغطية إخفاق الحكومة وعجزها عن دفع رواتب موظّفيها من إيراداتها، والاستمرار بشراء الوقت من جديد.
وفق هذا النهج، قد تشهد التوظيفات انخفاضاً بنحو 120 مليون دولار شهرياً، أي قرابة 1.4 مليار دولار سنوياً. وعلى هذا المنوال يستطيع المركزي أن ينفق التوظيفات في غضون 6 أشهر.
2- العودة إلى السوق: بأن يدفع مصرف لبنان الرواتب من خلال جمع الدولارات من السوق، وذلك بعد نهاية “شهر العسل” الذي فرضته الأعياد المسيحية والإسلامية مؤدّية إلى ما يشبه “الهدنة” الاقتصادية “المدفوعة” من التوظيفات الإلزامية. إذا عاد مصرف لبنان إلى التدخّل في السوق، فإنّه سيضطرّ إلى جمع قرابة 6 ملايين دولار يومياً (20 يوم عمل شهرياً)، وهذا يعني أنّ سعر صرف الدولار سيشهد ارتفاعة صاروخية ستجعلنا نترحّم على دولار 145 ألفاً، فور عودته إلى السوق مجدّداً.
حينذاك ربّما يواجه مصرف لبنان صعوبة في جمع القدر نفسه من الدولارات التي كان يجمعها قبل موجة “دولرة” الأسعار، التي فتحت شهيّة المواطنين على التداول بالدولار الأميركي مباشرة، من دون اللجوء إلى الصرّافين. وسيفضي نبذ المواطنين للصرّافين إلى عجز “جيش الصرّافين” العاملين لحساب مصرف لبنان عن جمع 6 ملايين دولار يومياً من دون دفع الناس، بشتّى الوسائل، إلى التخلّي عن الدولارات لصالح الليرة. وقد يكون ذلك بلا جدوى، وهذا بدوره سيتسبّب بارتفاع سعر الصرف إلى أضعاف 100 ألف للدولار الواحد نظراً لندرة الدولار بين أيدي الصرّافين.
3- العودة إلى الليرة: بأن يدفع مصرف لبنان الرواتب بالليرة اللبنانية مباشرة، بعد استنفاد “صيرفة” ونهاية رحلتها، خصوصاً إذا ترافقت تلك الخطوة مع بداية طبع ورقتَي الـ500 ألف و1 مليون ليرة، وتعديل المادّة 47 من قانون النقد والتسليف التي تقول إنّه “يُمنح مصرف لبنان دون سواه امتياز إصدار النقد”. وضع هذه المادّة على طاولة تشريح الحكومة، ثمّ “هضمها” لأسباب مجهولة، توحي بأنّ الحكومة تتحيّن الفرصة لسحب هذا الامتياز من يد مصرف لبنان لصالح وزارة المالية، وربّما ذلك من أجل تخطّي إجراءات المركزي أو ربّما تخطّي الفراغ في حاكمية مصرف لبنان المنتظر بعد بداية شهر تموز مع نهاية ولاية رياض سلامة.
سيستمرّ مصرف لبنان بالصيام عن التدخّل بالسوق. ولذلك سيلجأ إلى استخدام التوظيفات الإلزامية
عندئذٍ قد يكون هذا احتمالاً انتحارياً بامتياز لأنّ المركزي (أو ربّما وزارة المالية) سيضطرّ إلى ضخّ 7.3 تريليونات ليرة لبنانية في السوق شهرياً، أي أنّ الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية ستكون مع نهاية العام الحالي قرابة 150 تريليون ليرة (هي اليوم تتأرجح بين 80 تريليوناً و90 تريليوناً)، ولكم أن تتصوّروا ما سيكون عليه سعر صرف الدولار في حينه.
الحكومة تحقن نفسها بالبنج
أمّا الحكومة فتصوِّر لنفسها وللرأي العامّ على السواء أنّها قادرة على اجتراح الحلول، موحية أنّ رفع قيمة الدولار الجمركي من 60 ألفاً اليوم إلى حجم السعر الفعليّ لمنصّة “صيرفة”، أو “دولرة” قيمة إيجارات الأملاك البحرية، سيستطيعان أن يسدّا هذا الارتفاع المخيف في كتلة الرواتب، بينما الحقيقة أبعد من ذلك بكثير، خصوصاً أنّ القاعدة اللبنانية تقول: الزيادة في الضرائب… زيادة في التهرّب والتهريب.
إقرأ أيضاً: لا… ليس 80% من اللبنانيّين فقراء
لكن سنكون إلى حينه أمام خيارين لا ثالث لهما في مسألة زيادة رواتب القطاع العام، وعلينا أن نتعايش مع واحد منهما: إمّا انخفاض التوظيفات الإلزامية إلى حين تبخّرها ثمّ المسّ بالذهب، أو ارتفاع سعر صرف الدولار إلى مستويات فلكية… فاختاروا أيّها اللبنانيون ما دام الإصلاح الحقيقي مؤجّلاً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@