سؤال مفصليّ تؤدّي الإجابة عليه إلى معرفة السبب الكامن وراء تسارع وتيرة تقارب السعودية مع النظام السوري. المبرّرات والموجبات المعلنة كثيرة، لكنّها عاجزة عن توضيح المشهد أو تفسير المقاصد والمنافع أو العائدات. ومن هذه المبرّرات:
– اعتماد السعودية سياسة تصفير المشاكل في المنطقة.
– تكريس الاستقرار على كلّ الجبهات والساحات بغية توفير الأمن القومي السعودي والعربي.
– أن تكون السعودية هي القوّة المقرّرة سياسياً في المنطقة، من خلال استعادتها التأثير في كلّ الملفّات أو القضايا. وهذا ما تنتهجه في اليمن وفلسطين وسوريا.
عدم الإجماع على دعوة سوريا إلى الجامعة العربية لم يكن عائقاً أمام الخطوات السعودية المتسارعة في اتجاه دمشق لتطوير العلاقات الثنائية. وهذا ما شدّد عليه النظام السوري في لقاءات مع مسؤولين عرب
تهريب الكبتاغون
كانت السعودية تريد دعوة الرئيس السوري بشار الأسد إلى القمّة العربية، لتكرّس مبدأ انعقادها كاملة على أرضها، فتكون وحدها القادرة على جمع العرب. ولكنّ اعتراضات عدّة برزت في الاجتماع الوزاري لدول مجلس التعاون الخليجي مع مصر والعراق والأردن:
– الرفض الأردني فُهم على أنّه رسالة أميركية، على الرغم من أنّ لعمّان علاقات وتواصلاً سياسياً مع النظام السوري.
– عدم حماسة مصريّة.
– رفض قطري وكويتي ومغربي.
لكنّ عدم الإجماع على دعوة سوريا إلى الجامعة العربية لم يلجم الخطوات السعودية المتسارعة في اتجاه دمشق لتطوير العلاقات الثنائية. وهذا ما شدّد عليه النظام السوري في لقاءات مع مسؤولين عرب. إذ أبدى حرصه على مثل هذه العلاقات بدون اهتمامه بالعودة إلى الجامعة العربية.
أحد الأسباب المباشرة لتنامي العلاقات السعودية – السورية أمنيّاً ثمّ سياسياً، هو الوصول إلى اتفاق على وقف تهريب المخدّرات إلى المملكة ودول الخليج الأخرى عبر الأردن ولبنان. من دون هذا الأمر لا يبدو حتى الآن أنّ هناك مصلحة سياسية سعودية في الانخراط في علاقة مع النظام السوري ما دامت وتيرة العلاقة أسرع من أيّ وتيرة سياسية يمكنها التأسيس لحلّ سياسي للأزمة، خصوصاً أنّ النظام السوري يرفض البحث في القرار الدولي 2254، ولم يتّخذ أيّ خطوة تتعلّق بإطلاق سراح عشرات آلاف المعتقلين أو الدخول في حوار جدّيّ مع المعارضة.
تجارب مريرة
أمّا الرهان على حدوث تغيُّر في أداء النظام بعد تطبيع العلاقات، فذلك مستغرب، خصوصاً أنّه أكثر مَن اختبر آليّات التهرّب من التعهّدات وعدم الإيفاء بالعهود والوعود. ولنا في ذلك تجارب كثيرة ومريرة، أبرزها الدرس التاريخي لفشل مبادرة الملك الراحل عبد الله ومفاعيله التي ما تزال قائمة إلى اليوم. فالنظام السوري غير قابل لتعزيز حساباته العربية على حساب موقعه إلى جانب إيران.
أمّا الحديث عن التطبيع مع النظام في سبيل الانكفاء السعودي عن الملفّ السوري، فغير وارد لأنّ السعودية لم تعد منخرطة في الملف السوري منذ عام 2015. فهي أوقفت كلّ أشكال الدعم السياسي والعسكري للمعارضة، خصوصاً أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقبيل تدخّله العسكري، كان قد ناقش ذلك في اتصال هاتفي مع الملك سلمان بن عبد العزيز. وهذا يوضح أنّ السعودية حيّدت نفسها عن الصراع.
من الأسئلة المطروحة أيضاً: هل هناك بحث سعودي عن فرص للاستثمار في سوريا وتوجّه لإعادة إعمارها من خلال صندوق الاستثمار السعودي، كما حصل في مصر مثلاً أو في دول مختلفة؟ ما يزال هذا الأمر مؤجّلاً بسبب الظروف الدولية وعقوبات قانون قيصر.
قد يشهد المسار السياسي المقبل انسحابات عسكرية لفصائل موالية لإيران من سوريا لانتفاء الحاجة إليها. ولكنّ الإيرانيين أصبحوا في عمق الدولة والنظام السوريَّين، وأصبح النظام الإيراني في عمق بنية المؤسّسات الأمنيّة والعسكرية في سوريا
رفض النظام السنّيّ
من حيث الشكل أيضاً، المصلحة السياسية سعودية حتى الآن للتطبيع مع دمشق، بدون تحصيل أيّ مكاسب أو تنازلات سياسية جدّية وحقيقية. غير ذلك سيعني ذلك منح انتصار مجّاني لدمشق ولطهران من خلفها. وهنا لا بدّ من العودة إلى الاستشهاد بمعطيَيْن أساسيَّيْن:
– الأول: رفض وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن يحكم السُّنّة سوريا. فهو قال في آذار من عام 2012 في حديث إلى إذاعة “كوميرسانت إف إم” الروسية: “الصراع يدور في المنطقة كلّها، وإذا سقط النظام الحالي في سوريا، فستنبثق رغبة قويّة وتُمارس ضغوط هائلة من جانب بعض بلدان المنطقة من أجل إقامة نظام سُنّي في سوريا. ولا تراودني أيّ شكوك بهذا الصدد. ويقلقنا في هذا الوضع مصير المسيحيين. وهناك أقلّيات أخرى كالأكراد والعلويين والدروز.”
– الثاني: ما قاله المفكّر السوري الياس مرقص قبل وفاته في عام 1979 للمعارض السوري الراحل ميشال كيلو الذي كشف عن هذا الكلام. وقد حضر ذلك اللقاء المعارض السوري رياض الترك أيضاً. وكان يتمّ الإعداد يومذاك لمؤتمر الحزب الشيوعي في سوريا. وتمّ إعداد مقال تحت عنوان: “رياح الحرّية تهبّ من الشرق” تعليقاً على الثورة الإسلامية في إيران. حينذاك عمل مرقص على تقريعهم، معتبراً أنّ رياح “الذبح” قد هبّت، وأنّ سوريا ستدفع الثمن، مؤكّداً منذ تلك اللحظة أنّ الاهتمام الاستراتيجي الإيراني سينصبّ على سوريا، لأسباب سياسية وتاريخية وثقافية ذات نزعة انتقامية. وهذا ما حصل بعد اندلاع الثورة السورية، علماً أنّه كان قد بدأ من قبل نتيجة انصهار بشار الأسد في مشروع إيران.
يقود هذان المعطيان إلى استشراف الكلفة الباهظة للتسامح مع نظام مارس القتل بحقّ عشرات آلاف المدنيين على مدى سنوات، وعمل على إجراء أكبر تهجير شعبي وترانسفير ديمغرافي في العصر الحديث بعد الحرب العالمية الثانية. ويرفض أيّ نقاش في مسألة خروجه من التحالف مع إيران. وكان قد أعلن سابقاً أنّ الأرض لمن يدافع عنها. وكان صريحاً مع العرب الذين طالبوه بالتخلّي عن إيران أو الخروج من الحضن الإيراني، فقال بوضوح: “لا أتخلّى عن إيران التي دعمتني في الوقت الذي هاجمتموني فيه”.
إيران وسوريا ولبنان
قد يشهد المسار السياسي المقبل انسحابات عسكرية لفصائل موالية لإيران من سوريا لانتفاء الحاجة إليها. ولكنّ الإيرانيين أصبحوا في عمق الدولة والنظام السوريَّين، وأصبح النظام الإيراني في عمق بنية المؤسّسات الأمنيّة والعسكرية في سوريا.
وسط هذه التطوّرات، هناك من يراهن على ربط الملفّ اللبناني بنظيره السوري. وهناك رهانات أخرى على عودة دول الخليج إلى تلزيم الملف اللبناني لدمشق. لكنّ هذا لا يبدو واقعياً حتى الآن. وثمّة من يعتبر أن لا قدرة للنظام السوري على التأثير في لبنان، ولذا من الصعب ترجمة الانفتاح السعودي على نظام الأسد في صالح سليمان فرنجية وانتخابه رئيساً للجمهورية.
إقرأ أيضاً: التطبيع بين الرياض ودمشق: خفض التوقّعات
يستمرّ الرهان والانتظار في صفوف حلفاء دمشق، لعلّ ذلك يصبّ في صالح سليمان فرنجية. فيما هناك من يستعيد ما كشفه وزير الخارجية السابق فارس بويز في حلقة أجراها معه الزميل سامي كليب ببرنامج “الرئيس” على قناة الجديد. إذ كشف بويز أنّه في عام 2008، كانت حظوظه مرتفعة جداً للوصول إلى رئاسة الجمهورية. وقد قاد المبادرة لإيصاله في تلك الفترة رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم آل ثاني، الذي عمل على إرسال طائرة خاصة إلى بويز لتقلّه إلى الدوحة. وهناك أبلغ بويز بأنّه تمّ الاتفاق على أن يكون رئيساً للجمهورية. استغرب الرجل حينها بسبب أنّ بشار الأسد كان أحد أبرز المعارضين لرئاسته. لكنّ رئيس الوزراء القطري كان مصرّاً حتى حصل اتصال هاتفي بين الأسد وبويز، فقال الأول للثاني: “أنت لست معنا، وسياستك تتعارض مع سياستنا، لكنّنا نحترمك ونؤيّد وصولك إلى الرئاسة على الرغم من أنّك محسوب على خطّ آخر”. هكذا نام بويز رئيساً للجمهورية، واستفاق على تغيّر في المعطيات. يمكن لهذه الواقعة أن تتكرّر مع سليمان فرنجية بشكل عكسيّ لبنانياً. ففرنجية مدعوم من دمشق، وقد يستفيق على اتصال هاتفي من الأسد يهنئه أو يطالبه بالانسحاب.