المهديّ الذي لا ينتظره الصدر

مدة القراءة 8 د

هل انقلب السحر على الساحر أم استغلّت جهة ما المسار الذي اعتمده مقتدى الصدر في تحشيد قواعده الشعبية لتوجيه “ضربة” له من حيث لا يحتسب وإخراجه من دائرة القدرة على توظيف العامل الديني والعقائدي لبناء عصبيّته السياسية وهويّته الدينية، بعدما أخرجته من دائرة التأثير السياسي ودفعته إلى إعلان الانسحاب من الحياة السياسية والاستقالة من العملية البرلمانية والانكفاء وترك الساحة لخصومه.
لا شكّ أنّ قرار الانسحاب من الحياة السياسية أو الانكفاء عن المشاركة في هذه العملية بعد أحداث المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية بغداد واحتلال البرلمان، أحدث إرباكاً كبيراً داخل صفوف التيار الصدري، ورفع حالة الامتعاض من قرار الانسحاب وحجم الخسارة التي ستلحق بقوّة التيار على التأثير، ودفع بعض القيادات إلى اتّهام الصدر بالمزاجيّة في المواقف والارتجالية والتفرّد وإقصاء قيادات التيار عن القرارات المصيرية. لكن سرعان ما عمل الصدر على احتواء هذه الحالة من خلال إجراء تبديلات في صفوف القيادات بإبعاد البعض وإضعاف آخرين، مستغلّاً حالة التعاطف داخل قواعده الشعبية لإعادة ترميم صورته وموقعه وقراره.
بالتزامن مع هذه المرحلة، بدأت تعلو أصوات بين رجال الدين التابعين للصدر تتحدّث عن “عصمة” مقتدى، وأنّ قراراته مسدّدة من الله، وأنّه استمرار للأئمّة من آل البيت، ويمثّل الحفيد الحقيقي لبضعة الرسول (ص) السيّدة فاطمة (ع). وربّما يكون الكلام الصادر عن ممثّل الصدر في الكاظمية ببغداد حازم الأعرجي عن مركزية “الحنانه”، مقرّ إقامة مقتدى بالقرب من النجف، وعن أنّها الوحيدة التي تملك القرار الديني والسياسي، أوّل كلام واضح يعبّر عن الموقف غير المعلن للتيار الصدري وزعيمه من مرجعيّة النجف، وتحديداً السيد علي السيستاني والدور الإرشادي والمتوازن الذي يلعبه في منع انجرار العراق إلى الفوضى والحروب الأهلية.

الصدمة التي أحدثتها دعوات مبايعته بصفته “المهدي المنتظر”، أربكت حساباته، لأنّها تدخله في متاهة إحداث انشقاق داخل المذهب الشيعي، وبالتالي تضرب مصداقيته وتحوّله إلى زعيم فرقة

وفّرت حالة الإحباط داخل صفوف التيار الصدري بسبب قرارات الصدر والخسائر السياسية التي لحقت بأتباعه الأرضية الخصبة لنموّ ظاهرة الغلوّ في تقديس الصدر وإعطائه صفة العصمة والتسديد الإلهي واعتباره مرتبطاً بالرسول والأئمّة والغيب والإمام المهدي المنتظر ومسدّداً من قبلهم، وذلك لتسويغ ما لحق بهم من تراجع وانتكاسات. ولم تجد هذه التوجّهات أيّ اعتراض من قبل الصدر الذي كان بحاجة إليها من أجل استعادة السيطرة على قواعده الشعبية والحفاظ على صورته أمامها والإشارة إلى أنّ في القرارات والمواقف التي يتّخذها مصلحة خافية ستظهر صوابيّتها مع مرور الأيام. من هنا جاء الكلام عن أنّ الانسحاب من العملية السياسية سيثبت صوابية موقف الصدر لأنّ الجماعة التي تصارَع معها على تشكيل الحكومة ستفشل وستمارس المزيد من الفساد والنهب، وعندئذٍ وفي الوقت الموعود سيكون الصدر وتيّاره لهم بالمرصاد للخروج وقلب الموازين والإمساك بالأمور وإنقاذ العراق ودولته وسيادته وشعبه.
سعى الصدر ومحازبوه إلى تقديمه بصورة “المصلح” الذي ينتظره العراق. وهو تعبير أو وصف استخدمه الصدر كثيراً في تغريداته خلال معركة تشكيل الحكومة وفي الانتخابات البرلمانية، في محاولة لإيهام قاعدته الشعبية بأنّه استمرار لحركة الإمام الحسين (ع) الذي خرج للإصلاح في أمّة جدّه الرسول، ثمّ عمد إلى رفع مستوى الربط بينه وبين حركة أئمّة أهل البيت من خلال وصف نفسه في تغريداته بأنّه تارة “ابن فاطمة” وتارة أخرى “حفيد الرسول” وصولاً إلى كونه مجدّد عاشوراء وكربلاء في عصرنا.
انطلاقاً من هذه المعطيات، ومع وجود أرضية لدى شرائح واسعة من العراقيين للذهاب وراء الأفكار “الانحرافية” الدينية، خاصة فكرة المهدي المنتظر، نتيجة حالة الإحباط والأزمات الاجتماعية والمعيشية التي يعانونها والتراكم السلبي على مدى السنوات الماضية للنكسات التي لحقت بهم وبالعراق. وهي ظواهر انتشرت بشكل واسع بين أبناء المكوّن الشيعي، وربّما يكون أبرز تجلّياتها حركة “الصرخي” في محافظات جنوب العراق التي امتدّت إلى محافظات الفرات الأوسط في الحلّة والنجف وصولاً إلى بغداد، فاضطرّت المرجعية إلى اتخاذ موقف واضح من هذه الحركة، وسمحت للحكومة بملاحقة هذه الجماعة، وسكتت عن تدمير المساجد والحسينيّات التي أصبحت مقرّات لنشاط هذه الجماعة في كلّ المحافظات.
لذلك لن يكون مستغرباً خروج جماعة يطلَق عليها اسم “أصحاب القضية” من داخل التيار الصدري، ودعوتها إلى إعلان عصمته والتخطيط لمبايعته باعتباره المهدي المنتظر، لأنّ هذا التوجّه مرّ بمراحل من التراكم بدأت منذ زمن والده محمد صادق الصدر، وبعد عام 2004 ومع تشكيل مقتدى لجيش المهدي عادت هذه الجماعة إلى الظهور بشكل خجول، ثمّ عملت على تعزيز صفوفها والانخراط في كلّ التشكيلات التي أقامها الصدر ومؤسّساته، وصولاً إلى الحراك الأخير الذي حاول استغلال أيام الاعتكاف الرمضاني في مسجد الكوفة الذي يعتبر أبرز الأماكن لنشاط التيار الصدري ولمقتدى ويقيم فيه صلاة الجمعة.
يبدو واضحاً من السلوك الديني والسياسي لمقتدى الصدر، وحالات الاعتزال والاعتكاف التي مارسها خلال المراحل السابقة، أنّها تصبّ في سياق هدف بعيد المدى، بدأ التخطيط له بعناية، ويتلخّص بالسعي إلى أن يكون “الوليّ الفقيه للعراق” أو المرجعية الدينية المستقبلية للنجف الأشرف، على المستوى السياسي بالحدّ الأدنى، فيمسك بالقرار الديني ويؤثّر فيه، خاصة في مرحلة ما بعد السيد علي السيستاني، لإدراكه أنّ الجمع بين البعد الديني والإمساك بقراره والبعد السياسي والتحكّم فيه يجعل منه زعيماً مطلقاً قادراً على مواجهة خصومه من المكوّن الشيعي من جماعة الأحزاب الإسلامية أو القيادات والتيارات المستندة إلى إرث ديني وعائلي منافس لآل الصدر في المرجعية والسياسة.

إلّا أنّ الصدمة التي أحدثتها دعوات مبايعته بصفته “المهدي المنتظر”، أربكت حساباته، لأنّها تدخله في متاهة إحداث انشقاق داخل المذهب الشيعي، وبالتالي تضرب مصداقيته وتحوّله إلى زعيم فرقة. ولا شكّ أنّ ذلك سيكون مقدّمة لإعلانه مفسداً للعقيدة ومبتدعاً، وسيدفع المؤسّسة الدينية بكلّ مرجعيّاتها وتوجّهاتها إلى مواجهته ومحاصرته دفاعاً عن المذهب والعقيدة اللذين يدّعي ويؤكّد أنّه المدافع الأوّل عنهما أمام الحركات الانحرافية والفساد والإفساد اللذين يمارَسان باسمهما. هذا الأمر يعني خسارته لكلّ التراكم الذي عمل على التأسيس له بانتظار الفرصة المناسبة. لذلك جاء ردّ فعله غير متوقّع، إذ أعلن تجميد عمل ونشاط وفعّالية التيار الصدري لمدّة سنة، في محاولة لاستيعاب هذا التحدّي الذي يستهدف مستقبله الديني والسياسي، وحتى موقعه داخل المعادلات السياسية العراقية، لأنّ القبول بهذه الصفة يفرض عليه الخروج وإعلان الحرب على جميع القوى الشريكة له في العملية السياسية انسجاماً مع الشعارات الإصلاحية التي يرفعها من ناحية، ويفقده القدرة على البقاء كأحد اللاعبين في المعادلة السياسية والعمل من أجل تحقيق طموحاته في بناء الدولة التي يريدها، ويضعه خارج هذه التصنيفات ويعطيه صفة عالمية لا يمكن أن تقف عند حدود العراق من ناحية أخرى.
من قرار تعليق وتجميد نشاط التيار الصدري لمدّة سنة، يمكن الدخول إلى الوظيفة السياسية لهذا القرار بعيداً عن مسألة دعوة “أصحاب القضية” إلى مبايعته بصفته المهدي الذي ينتظرونه ولا ينتظره مقتدى ولا يريد أن يكونه. يمكن التوقّف عند أكثر من محطّة للصدر اتّخذ فيها قراراً بتعليق نشاط جماعته الحزبية والسياسية، بدءاً من قرار تجميد جيش المهدي وتجميد سرايا السلام، وحلّ كتلة “سائرون” البرلمانية والتنصّل منها، مروراً بقرار الانسحاب من الانتخابات المبكرة عام 2022، الذي كان مقدّمة للانسحاب من “الإطار التنسيقي” للقوى والأحزاب الشيعية، والانتقال إلى تشكيل تحالف ثلاثي مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني وحزب “تقدّم” بزعامة محمد الحلبوسي و”عزم” بقيادة خميس الخنجر، استطاع من خلاله وعبر رفع شعار السعي إلى تشكيل حكومة أغلبية وطنية تعطيل العملية السياسية، ووصولاً إلى الحراك الذي قاده واحتلال البرلمان ومهاجمة مجلس القضاء الأعلى والمعركة العسكرية التي خاضها التيار للسيطرة على المنطقة الخضراء من أجل طرد كلّ السياسيين منها واعتقالهم ومحاكمتهم، إلا أنّ الأمور لم تسِر وفق حساباته، فتراجع وأعلن استقالة نوابه من البرلمان واعتزال العملية السياسية.

إقرأ أيضاً: العراق “يقطف” ثمار “اتفاق بكّين”

على مشارف الانتخابات المحلية أو انتخابات مجالس المحافظات المقرّرة في تشرين الثاني من هذه السنة، وفق القانون النسبي على قاعدة 1.7 أو قانون سانت ليغو الموحّد للمحافظات والبرلمان، قد يكون الصدر بحاجة إلى إعادة ترميم أوضاع التيار وشدّ عصبه من جديد، وإعادة ترتيب أوراقه وتصفية وتنظيف صفوفه قبل دخول هذه الانتخابات التي وافق على قانون إجرائها. وقد يعمد الصدر إلى المواربة من خلال التمسّك باعتزال العملية السياسية من جهة، وترك المجال لجماعته للمشاركة في هذه الانتخابات منفردين أو ضمن لوائح لا يتبنّاها من جهة أخرى، وبالتالي سيعيد فوز أيّ من هذه اللوائح أو سيطرتها على أيّ من المحافظات الانسجام إلى صفوف التيار الذي يعتقد الكثير من أتباعه ومؤيّديه أنّ قرار الانسحاب قد أضرّ بمصالحهم ومصالح الجماعات التي ينتمون إليها ودفع الكثير من القوى الشعبية إلى الابتعاد عن التيار بحثاً عن مصالحها.

مواضيع ذات صلة

روسيا ولعبة البيضة والحجر

منذ سبع سنوات كتب الأستاذ نبيل عمرو في صحيفة “الشرق الأوسط” مستشرفاً الأيّام المقبلة. لم يكتب عمّا مضى، بل عمّا سيأتي. نستعيد هذا النصّ للعبرة…

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…