انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا في أوروبا وبهزيمة اليابان في الشرق الأقصى. كان من الشروط المفروضة على المهزومين الالتزام بسقف منخفض للتسلّح، وبعدم الدخول في الصناعة العسكرية النووية. التزمت الدولتان بهذه الشروط، وهو التزام مكّنهما من التفرّغ للصناعات الاقتصادية المثمرة. فسيطرت ألمانيا على السوق الأوروبي، وسيطرت اليابان على السوق الآسيوي، وأصبحت الدولتان من أهمّ الدول الاقتصادية المتقدّمة. إلا أنّ الأهمّ من كلّ ذلك هو أنّ العسكريتاريا في كلّ من ألمانيا واليابان وجدت نفسها محاصَرة وممنوعة من إعادة بناء قوّاتها، ومعتمدة في الدرجة الأولى على الحماية الأجنبية. وقد تكرّس ذلك في إقامة معسكرات للقوات الأميركية لا تزال مستمرّة حتى اليوم في كلّ من الدولتين.
الحرب الأوكرانية غيّرت أوروبا
هذا الواقع غيّرته الحرب الأوكرانية في أوروبا. وبدأت تغيّره احتمالات الحرب التايوانية (المقبلة) في شرق آسيا. فقد رفعت الولايات المتحدة الغطاء عن التسلّح الألماني والياباني. ودعت الدولتين إلى التحرّر من القيود التي فرضتها عليهما بعد الحرب العالمية الثانية وبسببها. وهكذا بدأت الصناعة الألمانية تتحوّل من صناعة السيارات الفاخرة إلى صناعة الدبّابات المدمّرة. وبدأت اليابان العودة إلى الصناعة العسكرية، الأمر الذي أنعش من جديد ثقافة العسكريتاريا التي أخمدتها معاهدة الاستسلام.
يشهد تاريخ العلاقات اليابانية – الصينية على أنّ السلام بينهما كان وهماً. فاليابان احتلّت معظم أرجاء الصين الشرقية والشمالية حتى قبل الحرب العالمية الثانية
يصبّ هذا التحوّل في مجرى التحوّلات الجديدة التي تقودها الولايات المتحدة. وهي تحوّلات تنطلق من المواجهة العسكرية، غير المباشرة حتى الآن، مع روسيا، ومن المواجهة العسكرية المحتملة مع الصين.
مع رفع الغطاء عن تطوير وتحديث التسلّح الألماني والياباني، بدأت الدول الأوروبية، بما في ذلك فرنسا، ودول شرق آسيا، وخاصة كوريا (بشقّيها الجنوبي والشمالي)، ترسم علامات استفهام كبيرة حول النتائج المحتملة لخروج التنّينَين العسكريَّين الياباني والألماني من قمقمهما بعد طول سبات.
شهد تاريخ العلاقات الألمانية – الفرنسية على أنّ السلام بين الدولتين كان مجرّد أوقات استراحة بين الحروب: منذ عهد نابليون بونابرت وبعده.
وهم السلام الياباني – الصيني
ويشهد تاريخ العلاقات اليابانية – الصينية على أنّ السلام بينهما كان وهماً. فاليابان احتلّت معظم أرجاء الصين الشرقية والشمالية حتى قبل الحرب العالمية الثانية. وخلال الحرب تعرّضت الصين لمعاناة طويلة. وبعد انتهاء الحرب تعمّدت الصين احتلال جزر يابانية، وهو ما فعله الاتحاد السوفيتي أيضاً.
من هنا فإنّ الخلفيّات الثقافية التي تقوم عليها العلاقات الألمانية – الفرنسية من جهة، والعلاقات اليابانية – الصينية من جهة ثانية، ثابتة ومتأصّلة في شخصية شعوب هذه الدول. ويمكن ترداد القول ذاته عن علاقات اليابان مع كوريا وعن علاقات روسيا مع اسكندينافيا، وخاصة فنلندة التي انضمّت أخيراً إلى حلف شمال الأطلسي، والتي هي من الدول التي تمتاز بأنّ لها أطول حدود مباشرة مع الاتحاد الروسي.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة تفرض على المارد الياباني في آسيا وعلى المارد الألماني في أوروبا تناول حبوب مهدّئة لكبح جماح العسكريتاريا في الدولتين. اليوم تقدِّم الولايات المتحدة للماردَين حبوباً مقوّية ومنعشة وحتى محفّزة!!
نجحت الولايات المتحدة في جمع اليابان وكوريا في حلف واحد. ولكنّها لم تنجح في تسوية ما بين الدولتين من خلافات حول الحدود البحرية، وحول مجموعة من الجزر الصغيرة، وكذلك حول التعويض على “عمّال السخرة” الذين قُتل بعضهم في القصف النووي الأميركي
من الواضح أنّ الهدف الأميركي من وراء ذلك تعزيز الجبهة العسكرية الأميركية في وجه الصين من جهة، وفي وجه روسيا من جهة ثانية. إلا أنّ الدول الأوروبية التي عانت بسبب المارد العسكري الألماني، ودول شرق آسيا التي عانت بسبب المارد العسكري الياباني، لها حسابات أخرى. وفي ضوء حساباتها تتساءل: من يضمن ضبط سلوك العسكريتاريا الألمانية واليابانية إذا أفلتت من عقالها؟
لا تزال هناك مناطق متنازَع على السيادة عليها بين اليابان من جهة، وكلّ من الصين وكوريا الجنوبية من جهة ثانية. كما أنّ هناك مناطق متنازَعاً عليها بين ألمانيا من جهة وكلّ من فرنسا وبولندا من جهة ثانية. ولا يزال ملفّ تعويضات ما بعد الحرب العالمية الثانية مفتوحاً بين وارسو وبرلين.
صورة ألمانيا النازيّة
صحيح أنّ ألمانيا وبولندة حليفان في الأطلسي، إلا أنّ الصورة الأسوأ لألمانيا في ثقافة البولوني هي صورة ألمانيا النازية التي احتلّت بلاده وتقاسمتها مع الاتحاد السوفيتي. وصحيح أيضاً أنّ اليابان وكوريا الجنوبية يجمعهما التحالف تحت المظلّة الأميركية، إلا أنّ كوريا لم تغفر لليابان حتى اليوم احتلالها وما تنسبه إليها من جرائم حرب، على الرغم من التعويضات المالية التي قدّمتها اليابان بسخاء لطيّ تلك الصفحة المظلمة من تاريخ علاقاتهما الثنائية.
نجحت الولايات المتحدة في جمع اليابان وكوريا في حلف واحد. ولكنّها لم تنجح في تسوية ما بين الدولتين من خلافات حول الحدود البحرية، وحول مجموعة من الجزر الصغيرة، وكذلك حول التعويض على “عمّال السخرة” الذين قُتل بعضهم في القصف النووي الأميركي على ناكازاكي وهيروشيما في اليابان. ولولا الدور التخويفي الذي تلعبه كوريا الشمالية، لربّما كانت العلاقات بين طوكيو وسيول أشدّ سوءاً.
إقرأ أيضاً: كيف تصير دولة ما قوّة عظمى؟
وهكذا يجعل ما بين اليابان وكوريا الجنوبية في جبهة الشرق الأقصى، وما بين ألمانيا وبولندا في الجبهة الأوروبية، المهمّة الأميركية في تطويق كلّ من الصين وروسيا مهمّة محفوفة بالمخاطر ومعرّضة للنكسات.
فتحالف المضطرّين (تحت الضغط الأميركي) يختلف عن تحالف الاختياريين (استجابة لمصالح ذاتية). وهذا يعني أنّ بعض الدول في الشرق كما في الغرب يُقاد إلى الحرب بقشرة موز يتزحلق بها، وبعضهم الآخر يُقاد إلى المواجهة بسلاسل!! والفريقان المتصارعان في الشرق والغرب هما اللذان يصنعان النظام العالمي الجديد.