مفاعيل “بكين” تُقصف من لبنان..

مدة القراءة 8 د

فلنتصوّر افتراضيّاً التالي:
اتّصل رئيس الجمهورية اللبنانية عند الساعة الرابعة من بعد ظهر الخميس 6 نيسان بقائد الجيش اللبناني فلان الفلاني ليسأله المعطيات التي تجمّعت لديه عن إطلاق الصواريخ من سهل القليلة قرب مخيّم الرشيدية القريب من مدينة صور. أبلغ القائد الرئيس بعدد الصواريخ التي أُطلقت، وبما صدر في الإعلام الإسرائيلي بشكل عاجل، وبالإجراءات التي بدأت وحدات الجيش في الجنوب اتّخاذها من أجل الكشف عن الراجمات التي استُخدمت في العملية. سأله الرئيس: هل “حزب الله” أطلقها؟ أجابه: ما زلنا نحقّق لمعرفة الجهة، لكن كالعادة فخامة الرئيس إطلاق الصواريخ لا يتمّ من دون علمه وسيقولون إنّ فلسطينيين قاموا بالعملية. إسماعيل هنيّة في البلد والإسرائيليون يستفزّون الفلسطينيين في المسجد الأقصى ويقومون باقتحامه كلّ ليلة ونحن في شهر رمضان. اتّصلوا بنا من قيادة “اليونيفيل” وطلبوا أن نعمل على التهدئة ويعتبرون الوضع خطيراً. كلّفت ضابط الارتباط الاتّصال بالحزب، لاستكشاف نواياه. إذا كان مصدر القصف فلسطينياً كما هي العادة، وردّ العدوّ بقصف موقع فلسطيني ما وحصلت إصابات، فإنّ الأمين العام للحزب كما قال في آخر خطاب له سيردّ على استهداف أيّ شخص على الأرض اللبنانية لبنانياً كان أو فلسطينياً..
قاطعه الرئيس وسأل: كم تبعد منطقة القصف عن الموقع البحري الذي ستبدأ فيه “توتال” الحفر في البلوك 9 في الخريف المقبل؟ ردّ القائد بأنّه ليس بعيداً كثيراً، بضعة كيلومترات. هم استكشفوا الشاطئ، لكن لم نعرف بعد الموقع بدقّة والإحداثيات.

مهما كانت تداعيات الذي حصل فإنّه لم يخدم مرشّح “الحزب” للرئاسة، كائناً من كان، فضلاً عن أنّه يدلّ على أنّ الهمّ الإيراني بعيد من هموم اللبنانيين، حتى إشعار آخر

لا يريدان الحرب لكن…
على كلّ حال فخامة الرئيس، إن شاء الله يصحّ التقويم الذي يقول إنّ العملية حصلت في ظلّ تقدير أنّ إسرائيل و”الحزب” لا يريدان الحرب، وبالتالي يكون الردّ مضبوطاً ومحدوداً في الجنوب، وهو ما يقضي بأن يقتصر تصرّف “الحزب” على اتّخاذ أقصى درجات الجهوزية.
أنهى الرئيس المكالمة واتّصل برئيس الحكومة الذي صرّح مُديناً وشاجباً إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان، مشدّداً على التزام لبنان القرار 1701، والجيش وقوات اليونيفيل يكثّفان تحقيقاتهما لكشف ملابسات العملية وتوقيف الفاعلين، ونسّقا الاتصالات السياسية لاستباق أيّ تصعيد. ثمّ طلب الرئيس الاتّصال بالحاج وفيق صفا للاستفسار منه عن الوضع الميداني وتقويمه لما سيحصل، على أساس أن “لا علاقة لنا بإطلاق الصواريخ”… وانصرف الرئيس إلى الاطّلاع على التقارير عن ردود الفعل وفي ذهنه أنّه “لم نصدّق متى أنهينا حالة الفراغ الرئاسي لنبدأ باتصالات من أجل تحقيق التعافي الاقتصادي… لكن ما باليد حيلة وعلينا أن نسلّم بأنّ الوضع الإقليمي ما زال معقّداً على الرغم من الاتفاق السعودي الإيراني الذي افترضنا أنّه سيريح لبنان، وليس الوقت لخلاف مع “الحزب” إذا كانت حساباته تقضي بقبّة باط لفصائل فلسطينية كي تطلق بضعة صواريخ… فنحن لم نبدأ بعد بمناقشة الاستراتيجية الدفاعية المتعلّقة بضبط السلاح…”.

السيناريوات القديمة ووظيفة الرئاسة
للقارئ أن يلجأ إلى شتّى أنواع الخيال حول موقعة القليلة – الجليل الغربي التي حصلت أول من أمس، وللوقائع التي أعقبتها، وتلك المحتملة التي قد تنجم عنها. ومن السهل على المتابعين أن يفعِّلوا السيناريوات المتعلّقة بمواجهات من هذا النوع سبق أن خبِروها. لكنّ ثمّة وقائع جديدة كثيرة هذه المرّة تلقي بظلّها على التطوّرات العسكرية، وتفرض حسابات واستنتاجات مختلفة على اللبنانيين، في ظلّ مأزقهم السياسي والاقتصادي، ووسط تسارع الأحداث الإقليمية والدولية المحيطة بهم.
– أولاً: ما أثبتته موقعة اليومين الماضيين أنّ موقع رئاسة الجمهورية متّصل بشكل وثيق بوظيفة السلاح على الأراضي اللبنانية، ذلك السلاح الذي نصّت على جمعه قرارات مؤتمر الحوار الوطني في حزيران من عام 2006، أي السلاح الفلسطيني خارج المخيّمات وداخلها، والذي حال تحالف سوريا و”حزب الله” دون تنفيذ هذه القرارات المتعلّقة به في حينه، لإبقائه خط الدفاع الأول عن سلاح “الحزب”. في سياق المشروع الإيراني في المنطقة الإبقاء على أدوات وأذرع تحريك الجبهات لأهداف سياسية، وفي ظلّ غياب التسويات، يصعب تخيّل رئيس للجمهورية لا يتناغم مع وظيفة هذا السلاح. كما يصعب على “الحزب”، وإيران من ورائه، الاستغناء عن موقع الرئاسة الأولى لمصلحة من يطمح إلى السعي لاستعادة قرار الحرب والسلم. وليس صدفة أن يشدّد السيّد حسن نصر الله في خطابه في 23 آذار على أنّ كلمة لبنان لم تلفظ في اجتماعات اتفاق بكين، بما يعني أنّ البلد ليس مشمولاً بالاتفاق الإيراني السعودي، على الأقلّ حتى إشعار آخر.

تجري المحاولة بين طرفَي الاتفاق في اليمن، ولم تنتقل بعد إلى سائر الميادين، وخصوصاً فلسطين وسوريا ولبنان

لرئيسٍ يتفهّم “وحدة الجبهات”
– ثانياً: إنّ وحدة الجبهات وفق منطق “المقاومة” يبقي على الدور الإيراني وفق منطق الأواني المستطرقة. ففي جبهات كلّ من لبنان وفلسطين وسوريا دور لإيران فاعل يقتضي استخدام إحدى هذه الدول لسبب يتعلّق بجارتها. فإذا اقتضى الردّ على القصف الإسرائيلي الموجع لمواقع إيران في سوريا انطلاقاً من لبنان، وبأدوات فلسطينية يغطّيها “الحزب” بحجّة الاعتداءات العنصرية المتطرّفة على المسجد الأقصى، وجب أن “يتفهّم” الرئيس اللبناني حاجات “المقاومة”.
لم يتردّد السيّد نصر الله في خطابه في 23 آذار في وضع قواعد جديدة للاشتباك تسوّغه وحدة الجبهات، سواء علناً أو ضمناً، بقوله: “أيّ اعتداء يطال أيّ منطقة في لبنان، ويطال ‏أيّ إنسان موجود على الأرض اللبنانية، سواء كان لبنانياً أو فلسطينياً أو من جنسية أخرى، ‏ستردّ عليه المقاومة قطعاً وسريعاً”.
وبموازاة هذا الإعلان يوجد لدى “الحزب” تكتيك آخر عبّر عنه نصر الله في الخطاب نفسه بقوله: “الصمت هو جزء من ‏المعركة السياسية الإعلامية النفسية العسكرية مع هذا العدوّ… الإسرائيلي اليوم مأزوم كما تتابعون. لم يمرّ بتاريخ هذا الكيان الغاصب المؤقّت وهن وضعف كما هو حاصل”. لكنّ زعيم المعارضة في إسرائيل يائير لابيد قال إنّه “يخطئ الحساب من يعتقد أنّ خلافاتنا الداخلية تحول دون الوقوف خلف الحكومة”. وها هو يعلن مساندة خطوات نتانياهو.

اختبارات “بكين” لأذرع إيران
– ثالثاً: إذا كان اتفاق 10 آذار في بكين الحدث التاريخي الأبرز الذي يرخي بظلّه على الإقليم، فمن نافل القول أنّ إسرائيل هي أحد المتضرّرين منه لأنّه يجهض مراهناتها على اصطفاف عربي في مواجهة طهران، من أجل أن تواصل القيادة الإسرائيلية الشديدة التطرّف خطواتها التصعيدية ضدّ إيران وصولاً إلى تخريب مفاعيل الاتفاق إقليمياً، فإنّ إيران نفسها لم تبدأ التأقلم مع انعكاساته بعد.
تجري المحاولة بين طرفَي الاتفاق في اليمن، ولم تنتقل بعد إلى سائر الميادين، وخصوصاً فلسطين وسوريا ولبنان. كما أنّ البيان الصادر عن اللقاء التاريخي لوزيرَي خارجية البلدين الأمير فيصل بن فرحان آل سعود وحسين أمير عبد اللهيان في بكين أول من أمس (أعقبه التصعيد على الجبهة الإسرائيلية اللبنانية ببضع ساعات) اقتصر على ترتيبات العلاقات الثنائية وتطبيق الاتفاقات القديمة، تاركاً التفاهم على المسارات الإقليمية لمرحلة لاحقة وإن كان المسار المتعلّق باليمن يتقدّم عليها حتماً.
مع وجود بنود سرّية في الاتفاق كما سبق لمصدر سعودي أن قال فإنّ إعلان الوزير بن فرحان منذ 10 آذار الماضي أنّ الاتفاق لا يعني التوصّل إلى حلّ لكلّ الخلافات العالقة بين البلدين، يشير إلى الحاجة إلى متابعة وحوار في المرحلة المقبلة التي قد تطول.

إقرأ أيضاً: تبادل خدمات… ورهينة اسمها لبنان

قد يكون مفيداً العودة في هذا السياق إلى تقرير “المعهد الدولي للدراسات الإيرانية – رصانة” في السعودية، الذي صدر في 14 آذار الماضي، أي بعد أربعة أيام على إعلان اتفاق بكين، والذي اعتبر أنّ “الحدّ من نفوذ أذرع إيران في المنطقة قد يشكّل أحد أهمّ عوامل نجاح الاتفاق في المستقبل، وقد يدفع نحو حلول سياسية تجعل الدول الإقليمية أكثر استقراراً إذا تعاونت إيران مع السعودية في تهيئة السبل الكفيلة ببسط الأمن والاستقرار في المنطقة”. ورأى المعهد أنّ “توقيع إيران الاتفاق يشكّل اختباراً لمدى سيطرة إيران على أذرعها، لا سيما على الساحة العراقية حيث حقّقت بعض الأذرع مصالح خاصة بعيداً عن المصالح الإيرانية”.
مهما كانت تداعيات الذي حصل فإنّه لم يخدم مرشّح “الحزب” للرئاسة، كائناً من كان، فضلاً عن أنّه يدلّ على أنّ الهمّ الإيراني بعيد من هموم اللبنانيين، حتى إشعار آخر.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…