ردّاً على د. رضوان السيّد: الراديكاليّة لبنانيّة.. لا مسيحيّة

مدة القراءة 7 د

بداية أودّ شكر موقع “أساس” على نشر هذا المقال. فمنذ تأسيسه، وقبل أن أنتمي إلى أسرته، عوّدنا أن يكون مساحة حوار وطنيّ.

قرأت مقال الدكتور رضوان السيّد يوم الإثنين الفائت (27 آذار) بعنوان “الراديكالية المسيحية.. خارج التوقيت العالميّ”. قرأته مرّة واثنتين وثلاثاً. كالعادة استمتعت به أسلوباً واكتسبت منه مضموناً. ولكن لا بدّ من توضيح بعض النقاط، خاصة أنّ الصديق الدكتور السيّد هو سيّد المعرفة في الشؤون الوطنيّة كما العربيّة والإسلاميّة، ومقالاته مقروءة من الكثيرين لبنانياً وعربياً. وما يدفعني أكثر إلى هذا التوضيح بلوغ الشحن الطائفي مبلغاً خطيراً جدّاً، وانطلاقاً من أنّ واجب “القلّة المتعقّلة”، كما سمّاها الدكتور السيّد، إسماع صوتها درءاً للانزلاق إلى المحظور، خاصّة أنّ المطّلع “على التطوّرات المستجدّة في أوساط المسيحيين”، الذي تواصل مع الدكتور السيّد، لا يبدو لي مطّلعاً بالعمق على أوضاع المسيحيين.

أمَل سمير جعجع أن يجلب ميشال عون إلى “الدولة”، كما أمَل تيار المستقبل قبل سنوات استيعاب حزب الله وحركة أمل في الحالة الاستقلالية من خلال التحالف الرباعي. سقوط “التفاهم” يشبه إلى حدّ بعيد فشل “التحالف”

عون لا يمثّل المسيحيّين

الكلام عن أنّ “تحالف عون – نصرالله هو تحالف راديكاليّتين مسيحيّة وشيعيّة” فيه تجنٍّ على الطائفتين. فلا ميشال عون يمثّل المسيحيين، كلّ المسيحيين، ولا حسن نصرالله يمثّل الشيعة، كلّ الشيعة. صحيح أنّه لحظة توقيع الاتفاق كان عون يدّعي تمثيل 70% من المسيحيين، لكن يجب أن لا ننسى أنّ “التحالف الرباعيّ” هو من أعطى ميشال عون هذه النسبة من الأصوات المسيحيّة. حينذاك بدا التحالف وكأنّه إقصاء للمسيحيين، ولا سيما أنّهم كانوا خارجين من فترة الوصاية السوريّة التي دفعوا وحدهم، خلالها، ثمن الحرب، اعتقالاً ونفياً وتعذيباً وإقصاءً وتهميشاً. في حين كان قادة السنّة والدروز شركاء في السلطة، وقادة الشيعة حلفاء لحافظ وبشّار الأسد يستفيدون من تسلّط النظام السوري وأزلامه، لتحسين مواقعهم في الدولة وخارجها.

قبل تحالف “عون – نصرالله”، اختارت شريحة كبيرة من المسيحيين، وفي طليعتها القوّات اللبنانيّة، التحالف مع الاستقلاليين، وفي طليعتهم تيار المستقبل. وللتذكير، كان المسيحيون قد سبقوا السنّة والدروز في الحالة الاستقلاليّة بمطالبتهم بخروج الجيش السوري من لبنان، منذ بيان بكركي الشهير في 20 أيلول 2000 وتأسيس “لقاء قرنة شهوان”. وكان دافعهم إلى ذلك لبنانيّاً لا مسيحيّاً.

فشل “التفاهم” كما فشل “التحالف”

الكلام عن “الفرقة بين العونيين والقوات والكتائب والشبّان المسيحيين بسبب الصراعات على المناصب والوظائف والسياسات” فيه أيضاً تجنٍّ على “القوات والكتائب والشبّان المسيحيين” (علماً أنّ القوات وحدها عقدت اتفاقاً مع عون). معروف عن العونيّة السياسيّة رغبتها في احتكار السلطة وعرقلة الحكم. وهذا ما عانى منه سعد الحريري أكثر من سمير جعجع. فالكلّ يعرف كم مرّة أخّر ميشال عون تشكيل حكومات الحريري، قبل وصوله إلى بعبدا وبعده. والكلّ يدرك عرقلته لإدارة مجلس الوزراء. ومسألة الوزارات والتعيينات هي بند ورد في نهاية تفاهم معراب. قبله هناك الكثير من البنود السياسيّة التي تؤكّد أهمية الدولة وخيار الدولة.

أمَل سمير جعجع أن يجلب ميشال عون إلى “الدولة”، كما أمَل تيار المستقبل قبل سنوات استيعاب حزب الله وحركة أمل في الحالة الاستقلالية من خلال التحالف الرباعي. سقوط “التفاهم” يشبه إلى حدّ بعيد فشل “التحالف”. وبداية النكسة كانت بفشل “التحالف”، قبل سقوط “التفاهم”.

الخيار العربيّ للمسيحيّين

وحده تيار ميشال عون وصهره مكشوف سياسياً اليوم. وربّما يشعر أكثر بخطر هذا الانكشاف بعد الاتفاق السعودي – الإيرانيّ. أمّا عموم المسيحيين فمطمئنّون إلى أنّ هذا الاتّفاق، إذا ما وضع لبنان في جدول أعماله، فسيعود على لبنان وعليهم بالخير انطلاقاً من ثقتهم بأنّ المملكة العربيّة السعودية لن تقبل إلا أن تستعيد الدولة اللبنانيّة عافيتها وقرارها وسلطتها بحسب دستور الطائف. وهم مطمئنّون لصلابة علاقاتهم العربيّة، وبخاصّة مع دول الخليج. فقد بنوها، بعد 2005، انطلاقاً من جيوسياسة لبنان الجغرافية والتاريخية واللغوية والحضارية والسياسية والاقتصادية.

في الماضي رفض المسيحيون، أو بعض منهم، الانتماء العربيّ بسبب الخلط بين العروبة والإسلام ولحرصهم على التعدّدية الثقافية في لبنان. اليوم بات التمييز أوضح بين الاثنين، والكلام عن التعدّدية يدور في عدّة دول عربيّة. وما يدعم الخيار العربي للمسيحيين اللبنانيين ويشجّعهم عليه سياسة الانفتاح التي تنتهجها دول الخليج العربيّ ليس فقط في السياسة والاقتصاد والأعمال، إنّما في الدين أيضاً. وهذا ما برز من خلال دعوة المملكة العربية السعودية للبطريرك الماروني (2018) وزيارات البابا لكلّ من دولة الإمارات العربيّة المتحدة وإمارة البحرين.

يأخذ البعض على المسيحيين المطالَبة باللامركزيّة الإدارية الموسّعة. وهي طرح اتُّفق عليه في وثيقة الوفاق الوطني الموقّعة في الطائف

المسيحيّون والفدرالية

من الخطير زجّ اسم البطريركية المارونيّة في الكلام الذي قيل عن “الفدرالية والانفصال”، كما جاء في مقال الدكتور رضوان. فهي البانية للكيان اللبنانيّ. وهي اليوم آخر خطّ دفاع عنه، باعتراف غير المسيحيين.

أمّا الكتائب والقوات فصحيح أنّ مشروع الفدرالية راود بعض قادتهما لفترة خلال الحرب، لكنّ مرشّحهما للرئاسة، بشير الجميّل، كان مرشّح الـ 10,452 كلم مربّع. وسمير جعجع دعم اتّفاق الطائف ودستوره وتمسّك بتطبيقه ودفع الثمن اعتقالاً لأكثر من 11 عاماً، مع العلم أنّه ربّما أخطأ بكلامه، منذ أشهر، عن تغيير النظام.

يأخذ البعض على المسيحيين المطالَبة باللامركزيّة الإدارية الموسّعة. وهي طرح اتُّفق عليه في وثيقة الوفاق الوطني الموقّعة في الطائف. وهنا نسأل: لماذا “عقدة اللامركزيّة” عند البعض، فكلّ الدول المتطوّرة اعتمدتها، حتّى فرنسا، التي هي نموذج الدولة المركزيّة في أوروبا والعالم، اتّجهت نحو اللامركزيّة منذ سنوات؟

عقدة الأقلّويّة

عندما قمت برفقة أحد رهبان جامعة الكسليك بدعوة البطريرك بشارة الراعي إلى المؤتمر الأوّل الذي نظّمه “مركز الدراسات حول الأقلّيات في الشرق الأوسط”، اعترض على التسمية، وقال صراحة: “نحن نرفض تسمية أقليّة. نحن لسنا أقليّة”.

يحمل المسيحيون “عقدة الأكثرية”. لو كانت لديهم “عقدة الأقلّويّة”، مثل غيرهم من المكوّنات، لاختلف سلوكهم السياسيّ، ولكانوا عقدوا تحالفاً مع حافظ الأسد منذ سبعينيات القرن الماضي، وقبلوا بوصايته على لبنان حفاظاً على مواقعهم. أمّا تحالف ميشال عون مع حزب الله، وتنظيره عن تحالف أقلّيات، فقد رفضه المسيحيون وسقط.

إقرأ أيضاً: فرنسا: زادت أعمارهم 15 عاماً.. ويرفضون العمل عامين إضافيين

وفي ما خصّ خشية المسيحيين على الدور والحضور، فهو مبرّر. فهم مجموعة عانت من الاضطهاد والتهميش منذ الفتح الإسلامي وصولاً إلى الاحتلال الإيرانيّ، مروراً بالظلم العثمانيّ. لذلك لديهم اليوم هواجس كبيرة حول مستقبلهم السياسي في لبنان. ويتشاركونها مع الفاتيكان. لكنّ هذه الخشية لا تدفع العقلاء منهم، أحزاباً وجماعات وأفراداً، وهم كُثُر، إلى المطالبة بالفدرالية والانفصال، إنّما إلى الدعوة إلى بناء دولة المواطنة. وهذا ما يدعو إليه الفاتيكان وعبّر عنه قداسة البابا خلال زياراته التي قام بها لدول المنطقة.

منذ عصر النهضة في أوروبا، كان المسيحيون اللبنانيون يسيرون على التوقيت العالميّ. ساهموا، وما يزالون، في أن يكون لبنان في قلب التوقيت العالميّ الاقتصاديّ، والمالي، والتجاريّ، والعلميّ، والتكنولوجيّ… انطلاقاً من هنا كان اعتراضهم على تخلّفه بالأمس عن التوقيت العالميّ. وفي موقفهم هذا راديكالية لبنانيّة وليس راديكالية مسيحيّة.

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…