يمتدّ العالم الإسلامي من شرق آسيا إلى غربها، ومن شمال إفريقيا إلى جنوبها. وفي هذه المنطقة الواسعة من العالم ينتشر أكثر من مليارَي مسلم يتوزّعون في مجموعة من الدول. ولكن لا تتولّى حكم أيّ دولة منها سيّدة باستثناء بنغلادش.
حتى الشيخة حسينة لم تصل إلى الرئاسة الأولى بجهدها. ولكنّها ورثت الرئاسة من والدها مجيب الرحمن الذي قاد حركة استقلال بنغلادش عن باكستان في عام 1974. وهي الحركة التي كلّفت الطرفين البنغالي والباكستاني مليون قتيل.
لغة الانفصال والحرب
عندما وقع الانفصال الكبير في القارّة الهندية بعد احتلال بريطاني طويل، قامت دولتان على قاعدة دينية: الهند الهندوسية بأكثريّتها، وباكستان الإسلامية بأكثريّتها. حافظت الهند على وحدتها حتى اليوم. أمّا باكستان فقد وقعت ضحية حرب اللغة. الآباء المؤسّسون أرادوا أن تكون الأوردية لغة الدولة الرسمية. إلا أنّ البنغاليين الذين يجهلون اللغة الأوردية، تمسّكوا بلغتهم القومية البنغالية. وعلى هذا الأساس وقعت حرب الانفصال الدموية التي ذهب ضحيّتها مليون قتيل مسلم على خلفيّة اللغة!
لا شكّ في أنّ أخطر ما في هذا الصراع هو أنّ الدولتين “الشقيقتين” تملكان ترسانة نووية كبيرة
مجيب الرحمن قاد الحركة الوطنية البنغالية، ولذلك يُعتبر الأب المؤسّس. وبعد وفاته تولّت السلطة من بعده ابنته الشيخة حسينة وعمرها الآن 74 عاماً. حتى المعارضة في بنغلادش تتزعّمها سيّدة أخرى هي خالدة ضيا. وهي تعيش في “الإقامة الجبرية” في منزلها بدكار.
مسيحيّ يُصلح بين مسلمين
بعد حرب المليون شهيد التي نشبت بسبب اللغة، استمرّ الخلاف الباكستاني – البنغالي حتى عام 1974. في ذلك العام قرّرت منظمة التعاون الإسلامي (كانت تُعرف باسم منظمة المؤتمر الإسلامي) عقد مؤتمر حول القدس في مدينة لاهور الباكستانية. وهذا يعني أنّ رئيس دولة إسلامية كبرى هي بنغلادش لن يحضر بسبب القطيعة مع باكستان. يومها قرّرت الأمانة العامّة للمنظمة بمبادرة من العاهل السعودي الملك فيصل، يرحمه الله، التدخّل لإصلاح ذات البين باسم القمّة ومن أجل القدس.
تشكّل وفد من عدد صغير من وزراء خارجية الدول الإسلامية لزيارة الرئيس البنغالي مجيب الرحمن في العاصمة دكار وإقناعه بالحضور إلى لاهور باسم الدول الإسلامية مجتمعة. كان بين أعضاء وفد المنظمة وزير مسيحي ماروني هو المرحوم فؤاد نفاع. وكان يرافق رئيس الحكومة في ذلك الوقت المرحوم تقيّ الدين الصلح. نجح الوفد في مهمّته، وتمّت المصالحة فعلاً، وكان للوزير نفّاع دور بارز فيها.
أثناء المؤتمر لعب مسيحي آخر، أرثوذكسي هذه المرّة، هو البطريرك الياس الرابع دوراً لا يقلّ أهمية. فقد اعتلى بملابسه الكهنوتية الكاملة منصّة القمّة الإسلامية وألقى باللغة العربية خطاباً حول القدس وتحرير المقدّسات، وكأنّه كان يقول للرئيسين الباكستاني بوتو والبنغالي مجيب الرحمن إنّه يجب أن لا تكون اللغة الأوردية ولا اللغة البنغالية سبباً لصراعكما، بل إنّ اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، هي التي يجب أن تكون سبباً لوحدتكما وتفاهمكما.
منذ ذلك الوقت (1974) لم تتعرّض العلاقات الباكستانية – البنغالية لأيّ مشكلة. فالمسيحيان الماروني (السياسي) والأرثوذكسي (الديني) قدّما الدرس الذي غاب عن الدولتين الإسلاميّتين، والذي أدّى غيابه إلى سقوط مليون قتيل!
تقف باكستان عاجزة عن احتواء الظاهرة غير الطبيعية المتمثّلة في التطرّف والتشدّد والتي تنهمر عليها من أفغانستان في أكثر الأحيان
قوميّة هندوسيّة إلكترونيّة
تفصل الآن الهند بين باكستان وبنغلادش. وتفصلهما اللغة أيضاً. باكستان تعاني من موجات تطرّف الجهل الإسلامي (طالبان في جارتها أفغانستان) وبنغلادش تعاني بسبب موجات تهجير المسلمين من بعض دول شرق آسيا، وخاصة الروهنغا في ميانمار والمسلمين البنغاليين أنفسهم في شرق وشمال شرق الهند.
تتحوّل الهند في ظلّ الحزب الحاكم الذي يتزعّمه مودي إلى دولة هندوسية بامتياز، بعدما كانت تُعتبر الديمقراطية الكبرى في العالم (1.2 مليار إنسان). ويرافق مشروعَ هندوسيّة الهند مشروعُ تطويرها إلى دولة إلكترونية من الطراز الأول. وفي الوقت ذاته تغرق جارتها (الشقيقة) في وحول أزماتها الداخلية، السياسية منها (الصراع مع الرئيس السابق عمران خان) والطبيعية (الفيضان الكبير الذي أغرق الزرع والحرث).
لا شكّ في أنّ أخطر ما في هذا الصراع هو أنّ الدولتين “الشقيقتين” تملكان ترسانة نووية كبيرة.
الطبيعة والدين
أمّا بنغلادش فإنّ قنبلتها “البشرية” بدأت تخضع لترتيبات جديدة من شأنها أن تحدّ من ارتفاع العدد مقابل تحسين مستوى المعيشة. ويتوفّر لبنغلادش مصدران أساسيان للدخل القومي:
– المصدر الأول هم المغتربون الذين يعملون في الخارج، وخاصة في دول مجلس التعاون الخليجي.
– المصدر الثاني هي صناعة الملابس. وكانت بنغلادش تبنّت هذه الصناعة بعدما تخلّت عنها الصين التي تحوّلت إلى الصناعة الإلكترونية الحديثة.
إقرأ أيضاً: فرنسا بين عشيقين: الروسي والأميركي
كانت باكستان أكثر غنى وازدهاراً. وكانت بنغلادش أكثر تعرّضاً للمدّ البحري الذي يُغرق الأخضر واليابس، وللفيضان النهري والعواصف الطبيعية التي تهبّ عليها من خليج البنغال بصورة شبه دائمة. لكنّ بنغلادش تمكّنت من احتواء هذه الظواهر الطبيعية عبر سلسلة من المشاريع الإنمائية. في حين تقف باكستان عاجزة عن احتواء الظاهرة غير الطبيعية المتمثّلة في التطرّف والتشدّد والتي تنهمر عليها من أفغانستان في أكثر الأحيان.