هل تستطيع فرنسا أن تطرح نفسها وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا وأن تزوّد أوكرانيا في الوقت ذاته بالأسلحة لمقاومة القوات الروسية؟
في الواقع هذا ما يقوم به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. فهو يلتزم من جهة أولى بمقرّرات حلف شمال الأطلسي بتأييد أوكرانيا وتسليحها، ويتمسّك ويلتزم من جهة ثانية بالعلاقات العاطفية التي تجمع باريس بموسكو منذ عهد الإمبراطورة كاثرين، أي منذ ولادة الدولة الروسيّة.
الغرام الروسي – الفرنسي
كان الفيلسوف الفرنسي فولتير متيّماً بالإمبراطورة كاثرين. فخلال عقد واحد (بين عامَي 1760 و1770) بلغ عدد الرسائل المتبادلة بين الإمبراطورة والفيلسوف الإصلاحي 197 رسالة. وكلّها باللغة الفرنسية. وفي إحدى هذه الرسائل خاطب فولتير الإمبراطورة قائلاً: “لو كنت شابّاً لانتقلت إلى روسيا”.
ولكن لا الرئيس فلاديمير بوتين هو الإمبراطورة كاثرين، ولا الرئيس ماكرون هو فولتير. مع ذلك فقد حاول الزعيمان تجاوز الحدود التي يفرضها حلف شمال الأطلسي للضغط على الكرملين وإخراجه مهزوماً من أوكرانيا، إلا أنّ محاولاتهما باءت بالفشل.
تبقى الحتمية السياسية التي تقوم على النظرية السياسية بأنّ الحرب لا تنتهي بالنصر والهزيمة دائماً، بل تنتهي بالتفاوض غالباً
قبل ماكرون، وقبل الحرب الأوكرانية، كان الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك معجباً بالأدب وبالشعر الروسيّين، حتى إنّه ترجم إلى الفرنسية قصائد الشاعر بوشكين. فكرّمته موسكو ومنحته أعلى أوسمتها. ومنح شيراك نفسه الرئيس الحالي فلاديمير بوتين وسام جوقة الشرف، وهو أعلى وسام فرنسي. حاول شيراك، بمعزل عن روسيا وانطلاقاً من فلسفة فرنسية في العلاقات الدولية، صناعة عالم جديد متعدّد الأقطاب (كان الجنرال شارل ديغول سبّاقاً في طرحه وإعلانه) للتحرّر من الهيمنة الأميركية على أوروبا. حتى إنّ ديغول كان يعتقد أنّ واشنطن تفتعل الاضطرابات مع الاتحاد السوفيتي لتبرير استمرار هذه الهيمنة، عن طريق تخويف الأوروبيين من المطامع السوفيتية. ولكنّ الحرب الروسية في أوكرانيا ليست تخويفية. إنّها حرب حقيقية وواقعية حملت الرئيس الفرنسي ماكرون على الانضواء في المجموعة الأوروبية الأطلسية، وهو يشعر بألم التخلّي عن الحلم الفرنسي بعالم متعدّد الأقطاب وبإحياء علاقات الإعجاب المتبادل بين فولتير وكاثرين.
مع ذلك لم تتخلَّ فرنسا عن رومانسيتها السياسية. ففي عام 2008 تمكّن السفير الروسي لدى فرنسا ألكسندر أورلوف من الحصول على ترخيص لبناء كنيسة روسية أرثوذكسية. وتقوم اليوم هذه الكنيسة على ضفاف نهر السين في قلب باريس بقبّتها المذهّبة. وعندما كتب السفير أورلوف مذكّراته في عام 2020 قدّمت لها الأمينة العامّة للأكاديمية الفرنسية هيلين كارير دانكوس بمقالة تكشف فيها عن عمق الودّ في العلاقات الفرنسية – الروسية.
انهيار العلاقات
لم تكن هذه العلاقات رومانسية فقط. فالرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند ألغى في عام 2014 صفقة لبيع روسيا غوّاصتين فرنسيّتين من نوع ميسترال احتجاجاً على العملية العسكرية التي قامت بها روسيا في شبه جزيرة القرم. وخلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة لم تنفِ زعيمة الحزب اليميني المتشدّد ماري لوبان اتّهامات وُجّهت إليها بأنّها حصلت على مساعدات مالية من بنك روسيّ في باريس لتمويل حملتها الانتخابية.
إقرأ أيضاً: العلاقات السعوديّة الإيرانيّة: 40 سنة من المواجهة الجيوسياسية
حاولت فرنسا أن تجمع بين الزوج الأميركي والعشيق الروسي. وعلى الرغم من أنّها كشفت الزوج وهو يرتكب جرم الخيانة (ببيع أستراليا غواصات نووية أدّت الى إلغاء صفقة غواصات فرنسية كانت تبني باريس عليها آمالاً كبيرة)، إلا أنّها لم تشأ، وربّما لم تستطع، أن تتخلّى عنه. فصادرات فرنسا إلى الولايات المتحدة من الأجبان والمشروبات والأزياء تشكّل مصدراً أساسياً من مصادر الدخل القومي الفرنسي.
تبقى الحتمية السياسية التي تقوم على النظرية السياسية بأنّ الحرب لا تنتهي بالنصر والهزيمة دائماً، بل تنتهي بالتفاوض غالباً. وعندما يتعب المتحاربون (ومموّلو المتحاربين) ربّما تجد فرنسا طريقها لتلعب دور الوساطة الذي يعيد العشيق إليها من جديد.