ذكرى نزار قبّاني: سفور النساء والهزائم شعراً جماهيريّاً للمتعلّمين

مدة القراءة 7 د

مضى قرن على ولادة نزار قباني يوم 21 آذار 1923 في دمشق، بعد نحو 30 سنة على ظهور متعلّمين تعليماً حديثاً من أبناء عائلات أعيانها، وعزوف نساء خمسٍ من ستٍّ متعلّمات من “بلاد الشام” عن تلبية دعوة وُجّهت إليهنّ سنة 1893 لحضور معرض عالمي في مدينة شيكاغو الأميركية. وحدها ابنة قرية كفرشيما في جبل لبنان، الكاتبة هنا كسباني كوراني، لبّت تلك الدعوة. ويستغرب سامي مبيّض في كتابه “سكّة الترامواي – طريق الحداثة مرَّ بدمشق” (“دار رياض الريس”، بيروت 2022) عدم تلبية النساء الخمس تلك الدعوة، على الرغم من كونهنّ “رائدات” في إقبالهنّ المبكر على التعليم والكتابة. وهو يكتب أنّه يجهل “سبب عدم دعوة الأديبة السورية مريانا مراش إلى المعرض، على الرغم من إصدارها مجموعة شعرية، وكونها أول سيّدة عربية تنشر مقالاً في الصحف وتقيم صالوناً أدبيّاً في مدينة حلب”. ويعلّل مبيّض عدم دعوة أيّ سيدة دمشقية بأنّ “الدمشقيات كنّ معزولات خلف جدران بيوتهنّ العالية”. أمّا “رائدة الرواية العربية زينب فواز، ابنة جبل عامل” فلم تلبِّ الدعوة “متحجّجة بعدم وجود محرم لمرافقتها إلى شيكاغو”. وكوراني التي لبّت الدعوة، مكثت في أميركا “وصارت تحاضر هناك في الجامعات والنوادي، وتقدّمت بطلب الحصول على الجنسية الأميركية”.

مضى قرن على ولادة نزار قباني يوم 21 آذار 1923 في دمشق، بعد نحو 30 سنة على ظهور متعلّمين تعليماً حديثاً من أبناء عائلات أعيانها

خريطة السفور النسائيّ

لماذا هذه المقدّمة في مناسبة مرور مئة سنة على ولادة “شاعر المرأة” نزار قبّاني؟

ليس للقول إنّه بأشعاره التي بدأت تشيع في خمسينيات القرن العشرين، أخرج النساء من وراء جدران منازلهنّ في دمشق وبغداد، وربّما في الخرطوم والجزيرة العربية. بل للقول إنّ أشعاره تلك كانت مرآة لتوق فئات متوسّطة محدثة في مدن وعواصم عربية مشرقية توقاً هائماً، عاطفياً وجريحاً، إلى سفور النساء واختلاطهنّ بالرجال، وإلى التعبير والتحرّر. وهو استجاب لذاك التوق بإخراجه لغة الشعر من قاموسها التقليدي إلى ما يشبه لغة عامّيّة فصيحة مبتكرة، ومستلّة من تلك اللوعة العاطفية في لحظات الحياة اليومية التي تعيشها أجيال الخمسينيات والستّينيات الشابّة التي نالت قسطاً من التعليم والتحرّر، وامتنع عليها خوض تجارب عاطفية فعليّة، إلا ما زوّدها به أدب جبران خليل جبران شبه الروحاني أو الرومنطيقي.

فنزار قباني جعل جسد النساء الفتيّات، أي أسماء أعضائهنّ الحسّية الممتنعة والمسوّرة إلا على البصر، خريطةً أو معرضاً شعرياً، فيما تلك الأجساد السافرة تتحرّك في الشوارع وعلى الأرصفة وفي المقاهي والمدارس والجامعات، في صالونات البيوت والتجميل وعلى الأسرّة، رافلة بالأزياء العصرية والأثاث العصري، بأدوات الزينة والعطور من ماركات عالمية، وصولاً إلى الملابس الداخلية الشفّافة. فألهب قباني بذلك مخيّلات شابّة متعطّشة إلى الرغبات الجسدية الخائفة والفائرة إلى التحقّق.

لذا صارت أشعاره ظاهرة أو مؤسّسة لغوية على كلّ شفة ولسان من أبناء ذاك الجيل الشابّ في الربع الثالث من القرن العشرين. وكانت مدينة بيروت وشارع الحمرا في تلك السنوات من المصادر الأساسية التي اعتمدها في لغته الشعرية. وذكر أيضاً شارع أبو رمّانة في دمشق وحيّ الزمالك في القاهرة في خريطة محاكاته مسالك الحياة المدنية الحديثة لتلك الأجيال المحتفلة بسفور النساء.

وسرعان ما صارت أشعار نزار قباني “ماركة مسجّلة” باسمه. ويا ما نهل منها كلّ من يتوق إلى كتابة الشعر في تلك الحقبة. تماماً على نحو ما نهل من لغة الأخوين رحباني الشعرية العاميّة المفصّحة ومن صوت فيروز الأيقوني الجديد في الحقبة نفسها، أشكالاً للتعبير والمخاطبة العاطفية، لكنّ “الخفرة” تدرّجت من عالم ريفي متمدّن إلى حنين مدني إلى ذاك الريف و”براءته” في المدينة. وليس من قبيل الصدفة أن تغنّي فيروز بعضاً من قصائد نزار قباني “الخفرة”: “لا تسألوني ما اسمه حبيبي/أخشى عليكم ضوعة الطيوب/والله لو بحت بأيّ حرفٍ/تكدّس الليلك في الدروب”. لكنّ “شاعر سفور النساء” سرعان ما غادر ذاك الخفر الريفي المتمدّن إلى: “فصّلتُ من جلد النساء عباءة/بنيتُ أهراماً من الحلمات”. وهذا بعدما كان قد كتب في واحدة من قصائده: “أيلول للضمّ/ فمدّ لي زندك/هل أخبروأ أمّي/أنّي هنا عندك؟/ أجلب قنانينا من عتمة الرفّ/تقطير أيدينا من كرمنا الصيفي”.

صارت أشعاره ظاهرة أو مؤسّسة لغوية على كلّ شفة ولسان من أبناء ذاك الجيل الشابّ في الربع الثالث من القرن العشرين

أشعار الهزيمة

كان نزار قباني في العشرينيات من عمره حين بدأ يكتب الشعر في مطالع الأربعينيات من القرن العشرين، جاعلاً من أجساد النساء جغرافيا لقصائده كلّها تقريباً، منذ مجموعته الأولى “قالت لي السمراء” سنة 1944: “تخيّلتُ حتى جعلتُ العطور تُرى… وتشمُّ اهتزاز الصدى/فلولاي… ما انفتحت وردة/ولا فقع الثدي أو عربدا”. وهو أمعن في تصوير تلك الجغرافيا الجسدية الأنثوية في “طفولة نهد”، وفي المجموعات الـ35 اللاحقة، التي تضمّ أشعاره السياسية منذ عصفت بوجدان “الأمّة العربية الناصرية” هزيمة حزيران 1967 عندما أصدر مجموعته الشهيرة “هوامش على دفتر النكسة”. وقد تضمّنت هذه المجموعة قصيدة “خبز وحشيش وقمر” التي سرعان ما صارت على كلّ شفةٍ ولسان: “… ما الذي يفعله قرص ضياء؟/ ببلادي…/بلاد الأنبياء/بلاد البسطاء../ ماضغي التبغ وتجّار الخدر”. وعندما أطلق الفدائيون الفلسطينيون رصاص بنادقهم ردّاً على الهزيمة الحزيرانيّة، احتفى بهم نزار قباني، فكتب وغنّت كوكب الشرق: “أصبح عندي الآن بندقية”. ولمّا توفّي “فارس الأحلام العربية” الرئيس جمال عبدالناصر في أيلول 1970، سارع نزار قباني إلى رثائه: “قتلناك يا آخر الأنبياء/قتلناك../ليس جديداً علينا/ اغتيال الصحابة والأولياء”. ثمّ يختم هذه المرثيّة: “أنادي عليك… أبا خالدْ/وأعرفُ أنّي أنادي بوادْ/وأعرف أنّك لن تستجيب/وأنّ الخوارق لن تُستعادْ”.

وفي ذلك الوقت كان الباحث السوري صادق جلال العظم قد نشر كتابه الشهير “النقد الذاتي بعد الهزيمة”، بعدما كان كتابه السابق “نقد الفكر الديني” قد أثار زوبعة في بيروت.

والعاصفة التي أثارتها أشعار قباني في المرأة طوال 20 سنة، أثارت قصائده السياسية بعد حزيران 1967 عاصفة أخرى مثلها في الديار العربية. وعلى هاتين العاصفتين أقام الشاعر نجوميّته الجماهيرية من المحيط إلى الخليج. وهي نجومية – مؤسّسة أنشأها وحده من دون أن يساعده أو يشاركه فيها أحد.

وحين استفحلت الحروب في لبنان، سرعان ما بادر نزار قباني إلى رثاء بيروت فخاطبها بلغة سفر النساء وغنّت ماجدة الرومي: “يا ستّ الدنيا يا بيروت”، فضمّ مرثاته تلك إلى سلسلة هزائم العرب في العصر الحديث.

إقرأ أيضاً: رحيل صونيا بيروتي.. الصوت الحارّ والشعر الصبيانيّ

ذكوريّة طاووسيّة؟

ماذا يبقى اليوم من نزار قباني الذي تخرّج من كلّية الحقوق في جامعة دمشق سنة 1945، عُيّن ملحقاً في سفارة بلاده بالقاهرة وهو في الـ22 من عمره، ثمّ عُيّن سفيراً في عواصم بلدان عدّة: لندن، أنقرة، بكين، مدريد، قبل أن يقيم في بيروت متفرّغاً لكتابة الشعر لمؤسّسته التي أنشأ لها دار نشر خاصّة بها في المدينة التي هجّرته منها الحرب إلى لندن التي توفّي فيها سنة 1998؟

قد تكون أشعار نزار قباني سجلّاً اجتماعياً- ثقافياً لعواطف أجيال وفئات واسعة في العالم العربي، ومرآة حقب عربية منذ أربعينيات القرن العشرين حتى نهايته.

لم يشهد دمار بغداد ولا نكبة سوريا ودمشق وخراب بيروت ولبنان الثاني كي يجدّد مراثيه. وقد تكون أشعاره ما قبل حزيران 1967 هي الأقوى حضوراً وأثراً، ربّما لأنّها سجّلت منذ الأربعينيات احتفال أجيال بحداثةٍ ذكورية طاووسيّة تزيينيّة أو خُلّبيّة، احتفلت بسفور النساء وبدعوتهنّ إلى مزيد من الإثارة البصرية والسفور.

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…