قد تكون قصّة شعرها الصبيانية، وصوتها الحادّ المائل إلى خشونةٍ سمراء دافئة، ما ميّز صونيا بيروتي في إطلالتها على شاشة تلفزيون لبنان الفضّيّة، غير الملوّنة بعدُ في ستّينيات القرن الماضي، بعد انتقالها إلى استديوهاته من عملها في تقديم برنامج “فنجان قهوة” الصباحيّ في الإذاعة اللبنانية. وقالت مرّةً: “أنا امرأة عمليّة ورياضية. أسبح صيفاً شتاءً. لا صبر لي على الانشغال بتصفيف شعري. وإذا ارتديتُ تنّورة أشعر أنّني عارية”.
لم يكن عصر الحجاب السياسي بذريعة دينية قد بدأ بعدُ، ولا أحد يدري هل كانت قد قرأت تلك القصيدة التي قال فيها شاعر لبناني شابٌّ في سبعينيات بيروت: “شعرُكِ… يا مضيعة الوقت”.
إذاعة وصحافة وتلفزيون
رحلت أمس صونيا بيروتي عن 87 سنة، تاركةً شعرها على حاله: صبيانيّاً قصيراً، كأنّما منذ ولادتها سنة 1934 في الأشرفية لأبٍ يعمل موظّفاً في وزارة الخارجية اللبنانية، وأمٍّ عازفة بيانو. وهي تقول: “جدّي همس في أذني أنّ العمل أهمّ من الزواج”.
رحلت صونيا بيروتي، صاحبة الصوت المتمرّد والحضور المتمرّد، فيما بيروت ولبنان يستغرقان في اختناقٍ عميم، بصحافة وتلفزيون يقتصر عملهما على متابعة أخبار الاختناق
منذ صباها في أواخر الخمسينيات عملت في الصحافة، عندما كان عدد العاملات فيها قلّة قليلة، لكنّها تزوّجت مرّتين وأنجبت. وبدل أن تتوقّف عن العمل واظبت عليه ونوّعت فيه بين الصحافة والإذاعة والتلفزيون. وفي خريف عمرها انصرفت إلى كتابة قصصيّة وروائية، ونشرت كتابين: “مطاحن الطائفية” و”حبال الهواء”.
رحلت تاركةً وجهها على حاله، فخطّت عليه السنوات علامات الكهولة، غير عابئة بموضة تصفيح الوجوه لمحو ملامحها الخاصّة وآثار السنين، ولا بقول روائي لبناني بدأ حياته الكتابيّة شاعراً: “عندما تخلع المرأة عنها ثيابها تخلع المرأة عليها السنين”.
“عدوّة” الفساتين والتنانير
من يتذكّر صونيا بيروتي في إطلالاتها التلفزيونية في الستّينيات والسبعينيات، بوجهها النحيل الحادّ القسمات مثل جسمها المنتصب خلف الميكروفون، لا بدّ أن يتذكّر أنّها لم تعتمد قطّ على جاذبيّة أنثوية أو نسائية كانت دارجة آنذاك، بل على بحّة الصوت الدافئ في حنجرتها، وعلى أناقةٍ حرّة خفيّة، وربّما هي من درّجت ارتداء بناطيل فضفاضة على جسمها النحيل. والأرجح أنّها لم تُشاهد مرّة مرتدية الفساتين والتنانير.
تخرّجت من مدرسة الآداب الشرقية في الجامعة اليسوعية ببيروت، عندما كانت ملتقى أبناء النخبة الفرنكوفونية. تقول إنّها اختارت العمل في الصحافة بناءً على نصيحة صديقتها المسرحية رضا خوري التي كانت من جيل نهضة المسرح في بيروت الستّينيات. عملت صونيا بيروتي في “دار الصيّاد” ومجلّتها “الصيّاد”. وقد تكون من رائدات من عملن في التحقيقات الصحافية الاجتماعية والثقافية، قبل انتقالها إلى الصحافة النسائية في مجلّة “الحسناء” التي عملت سكرتيرة تحريرها، ثمّ مديرة التحرير فيها. وبعدما قفزت صحيفة “النهار” قفزتها الجديدة في أواسط الستّينيات، عملت فيها بقسم التحقيقات.
استديو الفنّ
ربّما في مطلع السبعينيات التقاها سيمون أسمر في “النهار”، ودعاها إلى مشاركته في تقديم البرنامج التلفزيوني الجديد للهواة “استديو الفنّ”. ونقل ذاك البرنامج الحيّ العمل التلفزيوني إلى طور جديد، وكانت صونيا بيروتي نجمته الأسبوعية الدائمة، فتألّقت فيه وتألّق بها. ويعود لـ”استديو الفن” فضل اكتشاف معظم من يتصدّرون اليوم منصّات الغناء في لبنان، إضافة إلى تقديم البرامج التلفزيونية.
إقرأ أيضاً: صباح في ذكراها السابعة: صوت من التفّاح والشمس والحرير
عاجلت بداية الحرب الأهليّة ذاك البرنامج الذي عاود نشاطه في هدنات حرب السنتين (1975- 1976)، فيما راح الإذاعيّ شريف الأخوي، بعدما كان يقدّم برنامج “نزهة” الأسبوعي من إذاعة لبنان، يرسم بصوته خرائط الطرق “السالكة والآمنة” التي تخلو من القنص والخطف والقتل في الديار اللبنانية. ومنذ ذلك الوقت بدأ ينطفئ تلفزيون لبنان الرسمي وينطفئ الزمن اللبناني كلّه ويدخل في الكآبة والسواد.
اليوم رحلت صونيا بيروتي، صاحبة الصوت المتمرّد والحضور المتمرّد، فيما بيروت ولبنان يستغرقان في اختناقٍ عميم، بصحافة وتلفزيون يقتصر عملهما على متابعة أخبار الاختناق، وأجيال فتيّة لا تجد لتمرّدها سبيلاً سوى الهرب والهجرة من هذا الركود المظلم.