الاتّفاق الإيرانيّ – السعوديّ: احذروا القراءة بالمقلوب!

مدة القراءة 8 د

وُصف الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية بأنّه “قنبلة سياسية”، وبأنّه “زلزال” في المجال السياسي. تعكس قوّة الصفتين حقيقة أنّ الاتفاق خلط الأوراق في المنطقة وفتح قراءة مستقبل موازين القوى الإقليمية والدولية فيها على احتمالات شتّى تراوح بين أن يكون الاتفاق:

– تهدئة مؤقّتة في مسار الصراع السعودي – الإيراني، ويعكس تحوّلاً في شكله ووتيرته، ولا يضع حدّاً نهائياً له.

– أو نهاية حقبة وبداية عصر جديد في المنطقة.

الأكيد أنّ ما قبل الاتفاق ليس كما بعده، لناحية حدّة التنافس الإقليمي بين الدولتين الكبيريين الذي استمرّ زهاء أربعين عاماً تخلّلتها فترات تهدئة لم تدُم طويلاً. وربّما عمر هذا الصراع الطويل يدفع إلى الحذر في قراءة مستقبل الاتفاق من دون إغفال أنّه يحقّق مصالح مباشرة لأطرافه الثلاثة: السعودية، إيران، والصين، ويجعل احتمال نجاحه النسبي راجحاً.

قد يمثّل هذا التوقيت الإيراني نقطة الضعف الرئيسية في الاتفاق، إذ يقتضي انتظار مزيد من الوقت لمعرفة ما إذا كان استعداد طهران للتهدئة مع السعودية يعكس تكتيكاً إيرانياً مرحلياً أم يمثّل قراراً استراتيجياً طويل الأمد

خروج سعوديّ من الاستقطاب الدوليّ

حصل الاتفاق في لحظة استقطاب دولي غير مسبوق منذ انتهاء الحرب الباردة على خلفيّة الحرب الروسية على أوكرانيا. وهو استقطاب تتجمّع عناصره في الاتفاق. فالصين، القطب المقابل لأميركا الذي تصنّفه الأخيرة باعتباره “الخطر الاستراتيجي الأول” عليها، هي ضامنة الاتفاق بحكم علاقاتها السياسية بإيران والسعودية، وبدفع من مصالحها النفطية والاقتصادية الضخمة معهما.

يعكس الاتفاق كذلك قرار المملكة العربية السعودية بتحييد نفسها عن هذا الاستقطاب الدولي بقبولها، وهي الحليف التاريخي لواشنطن، بضمانة بكين الاتفاق الذي يعزّز استراتيجية المملكة لخلق بيئة استقرار إقليمي تخوّلها التركيز على تنفيذ “رؤية 2030″، خصوصاً أنّ الاتقاق يأتي في لحظة احتقان أميركي – إسرائيلي مع بوجه إيران، ويمكن أن يؤدّي إلى توتّرات عسكرية وأمنيّة إضافية في منطقة الخليج العربي.

أمّا إيران التي تتعرّض لضغوط داخلية وخارجية متزايدة جعلتها في موقع متأرجح بين القوّة والضعف، فوجدت في التهدئة مع السعودية سبيلاً للالتفاف على تلك الضغوط، علماً أنّ طهران كانت قد أبرمت اتفاقاً مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأسبوع الماضي يصبّ في إطار الالتفاف ذاك.

الضمانة الصينية ملزمة لإيران؟

قد يمثّل هذا التوقيت الإيراني نقطة الضعف الرئيسية في الاتفاق، إذ يقتضي انتظار مزيد من الوقت لمعرفة ما إذا كان استعداد طهران للتهدئة مع السعودية يعكس تكتيكاً إيرانياً مرحلياً أم يمثّل قراراً استراتيجياً طويل الأمد.

لكنّ نقطة الضعف هذه تعوّضها الضمانة الصينية التي من شأنها أن تحوّل التكتيك الإيراني للتهدئة مع “الجوار” إلى عنوان رئيسي من عناوين العلاقة الاستراتيجية بين طهران وبكين. وبالتالي فإنّ أيّ إخلال من جانب إيران بموجبات الاتفاق بات يعرّض علاقاتها الاستراتيجية مع الصين للاهتزاز، وهذا ما يشكّل رادعاً ضمنياً لإيران.

حصل الاتفاق في لحظة استقطاب دولي غير مسبوق منذ انتهاء الحرب الباردة على خلفيّة الحرب الروسية على أوكرانيا. وهو استقطاب تتجمّع عناصره في الاتفاق

على الضفّة الأخرى لا بدّ من معرفة كيف ستتعامل أميركا مع مفاعيل هذا الاتفاق، وبالأخصّ لأنّه يعكسُ صعود النفوذ السياسي والاقتصادي الصيني في منطقة الشرق الأوسط التي تعدّ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية منطقة نفوذ رئيسية للولايات المتحدة. وهنا تبرز أسئلة:

– هل تكثّف واشنطن مساعيها لإقناع الرياض بالانخراط في البنية الأمنية المتكاملة للمنطقة التي تحدّثت عنها مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف أخيراً؟

– هل تتّجه أميركا إلى تصعيد أكبر ضدّ إيران عن طريق فرض عقوبات إضافية على كيانات وأفراد إيرانيين، وإلى تغطية المزيد من الضربات الإسرائيلية في سوريا والداخل الإيراني؟

– هل تقبل واشنطن بإحياء المفاوضات النووية مع طهران التي تتردّد أنباء عن سعي بكين إلى استئنافها؟ وهذا ما يمكن أن يشير إليه، بالتزامن مع الاتفاق، تردّد أنباء عن إحراز تقدّم في المفاوضات لإطلاق سراح الأسرى الأميركيين في طهران، وعن دور قطر في هذه العملية. كما أعلنت واشنطن في يوم توقيع الاتفاق عن الإفراج عن “مستحقّات” إيرانية على العراق.

موقف واشنطن

لم يكن موقف واشنطن من الاتفاق سلبياً بالمطلق، فهي رحّبت به بوصفه يُساهم في منع التصعيد في المنطقة، لكنّها تشكّكت في الوقت نفسه في التزام إيران به، كما أشارت إلى أنّ السعودية أطلعتها على “المحادثات التي كانت تجريها مع إيران”. وأكّدت واشنطن أنّ الاتفاق ليس دليلاً على تراجع نفوذها في المنطقة. وهو موقف مركّب لا يفصح عن كامل الاستراتيجية الأميركية للتعامل مع الوضع الإقليمي الجديد بعد الاتفاق، لكنّه في الوقت نفسه لا يعطي إشارات متوتّرة وتصعيدية إزاءه. كما أنّه لا يخرج عن السياق العام لاستراتيجية الولايات المتحدة المعلنة للتعامل مع إيران والمتمثّلة في ثلاثية: “تفاوض، ردع، عقوبات”.

للتذكير فإنّ التشدّد الأميركي ضدّ القيادة الإيرانية في الآونة الأخيرة، على خلفيّة تعاونها العسكري مع موسكو وتطوير برنامجها النووي وقمعها الاحتجاجات الداخلية، لم يبلغ حدّ تخلّي واشنطن عن الخيار الدبلوماسي في التعامل مع طهران، وبالأخصّ في الملف النووي. والدليل أنّ ملامسة إيران الخطوط الحمر في برنامجها النووي لم تستدعِ ردّاً أميركياً نوعيّاً. وهو ما أثار حفيظة تل أبيب وأفصح عن تباين إسرائيلي – أميركي في شأن المقاربة القصوى للملف النووي الإيراني. فإسرائيل تشكّكت في استبعاد أميركا قرار القيادة الإيرانية تحويل إيران إلى دولة نووية عسكرياً. لكنّ ذلك لم يمنع مواصلة تكثيف التنسيق الأمني والعسكري بين الدولتين لمواجهة إيران، وآخر محطّاته تدريبات مشتركة بينهما في نيفادا الأميركية تحاكي “ضربة استراتيجيّة” ضدّها. 

الاتفاق مع إيران في هذا التوقيت يُسهم في خلق هذه البيئة الاستراتيجية الآمنة للسعودية، وإن كانت الرياض حذرة نسبياً في تأويل مفاعيله على المدى البعيد

الأولويّات السعوديّة

تحفّز هذه التطوّرات المتسارعة والمعقّدة على المسرحين الدولي والإقليمي السعودية على التحرّك ضمن بيئة استراتيجية آمنة تجعلها قادرة على الحفاظ على سلّم أولويّاتها السياسية والاقتصادية في ذروة التناقض بين أولويات حلفائها الكبار، أي أميركا والصين وروسيا.

الاتفاق مع إيران في هذا التوقيت يُسهم في خلق هذه البيئة الاستراتيجية الآمنة للسعودية، وإن كانت الرياض حذرة نسبياً في تأويل مفاعيله على المدى البعيد. وهذا ما يعبّر عنه تصريح وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان عن أنّ الاتفاق لا يعني التوصّل إلى حلّ جميع الخلافات العالقة بين البلدين.

في المقابل فإنّ الإيرانيين يسرفون في التأويل الإيجابي للاتفاق لأنّهم يوظّفونه في المواجهة مع أميركا ويحاولون الإفادة من زخمه لتطبيع العلاقات مع دول عربية أخرى، في مقدَّمها البحرين ومصر، وذلك من ضمن ما يسمّى “سياسة الجوار”. 

الاتفاق يشكّل أيضاً مظلّة أمان مزدوجة للسعودية، سواء شهدت المنطقة توتّراً أميركياً – إسرائيلياً أكبر مع إيران، أو تمّ التوصّل إلى إحياء الاتفاق النووي مع طهران بصيغة جديدة. لكن في الحالين يعكس الاتفاق ضعف ثقة السعودية بالاستراتيجية الأميركية للتعامل مع إيران، وبالأخصّ في أعقاب تراخي واشنطن في الردّ على قصف منشآت أرامكو في عام 2019، من دون أن تكون ثقتها بالنوايا الإيرانية قويّة على المدى البعيد.

سؤالٌ أساسيٌّ

في السياق ذاته يُطرح سؤالٌ أساسيٌّ: كيف ستكون طبيعة السلوك الإيراني في الإقليم بعد الاتفاق؟

الأكيد أنّ الاتفاق لن يحوّل إيران إلى حمامة سلامٍ في المنطقة ولو أبدت على المدى القريب إشارات إقليمية إيجابية تبدأ من اليمن المهمّ جدّاً للسعودية. فالنزعة التوسّعية في صلب التركيبة الجينيّة للنظام الإيراني، وهي أداته الرئيسية لحماية نفسه خارجياً وداخلياً. وبالتالي فإنّ تخلّيه عنها هو بداية نهايته.

إقرأ أيضاً: لبنان واتفاق بكّين: الرئاسة صناعة محلية…

لذلك لن تتخلّى إيران عن استراتيجيتها التوسّعيّة، أي عن “تصدير الثورة”، بل ستستخدم تكتيكات جديدة أكثر غموضاً لتنفيذها. وهذا ما سينعكس على إدارتها الملفّين اللبناني والسوري اللذين أصبحا بعد الاتفاق أكثر ارتباطاً ببعضهما. باعتبار أنّه بات من الصعب أكثر الآن مقاربة ملفّات المنطقة، سعودياً وإيرانياً، بعزل أحدها عن الآخر. لكن من يقرأ في ترحيب النظام السوري وحزب الله (وهذا الأهمّ) بالاتفاق استعداداً لتنازلهما، إنّما يقرأ بالمقلوب… على أقلّ تقدير!

مواضيع ذات صلة

إيران “تصدّر” أوهامها إلى الحزب..

ما يدعو إلى القلق والخوف على لبنان قول نعيم قاسم الأمين العامّ الجديد لـ”الحزب” في خطابه الأخير إنّ “خسارة طريق الإمداد عبر سوريا مجرّد تفصيل”….

“العقبة” تكشف عقبات المشهد السّوريّ

يليق بمدينة العقبة الأردنية الواقعة على ساحل البحر الأحمر والمشهود لها بخصوصيّاتها في استضافة وتنظيم العشرات من المؤتمرات الإقليمية والدولية ذات الطابع السياسي والأمنيّ والاقتصادي،…

سرديّة جديدة: سلاح “الحزب” للحماية من مخالفات السّير؟

.. “عفكرة توقيف سحر غدار هو عيّنة كتير صغيرة، شو رح يصير فينا كشيعة إذا سلّمنا سلاحنا. طول ما سلاحك معك هو الوحيد يلّي بيحميك….

نخبة إسرائيل: خطاب نعيم قاسم “خالٍ من الاستراتيجية”

منذ تعيينه أميناً عامّاً لـ”الحزب” بعد اغتيال سلفه نصرالله، وخليفته السيّد هاشم صفيّ الدين، سيطر الإرباك على خطب الشيخ نعيم قاسم، فتارة حاول تبرير حرب…