بدأت مباحثات الوفدين السعودي والإيراني في بكين التي أدّت إلى الاتفاق الأخير في 6 آذار الجاري. في هذا اليوم بالذات أعلن الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله عن دعم الحزب لترشّح سليمان فرنجية للانتخابات الرئاسية في لبنان.
فهل كان نصر الله على معرفة بما ستؤول إليه المداولات التي تجري برعاية الصين؟
إذا كان الأمر كذلك، وهو احتمال لا يقين به، فإنّ تصادف تعويم فرنجية في اليوم الأول لمحادثات الدولتين يعني أنّ حزب الله، الذي استمتع بالإقامة في منطقة رمادية بشأن موقفه من مرشّحيه المحتملين، عاجلَ إلى حسم الأمر في هذا اليوم بالذات قاطعاً الطريق على حليفه جبران باسيل وعلى قائد الجيش جوزف عون الذي كان من الصعب التصديق أنّ الحزب لا يضع فيتو عليه.
أيّاً تكن طموحات هذا وخيبة ذاك، فإنّ الاتفاق، على غموضه والحذّر في استشراف مفاعيله، بات أمراً واقعاً
وإذا ما كان نصر الله على علم بالحدث العتيد في بكين، فإنّه، وفق ذلك، أدرك أنّ الاتفاق السعودي الإيراني الذي سيخرج من المداخن الصينية سيُدخل لبنان في مرحلة تسويات تُسقط مرشّحين وترفع من حظوظ مرشّحين، فسارع إلى الإعلان عن مرشّحه رسمياً، وليس إيحاءً، لجعله مادّة مساومة على طاولة أيّ صفقة قد تؤدّي إلى التنازل عن ورقته مقابل مكاسب أخرى في اختيار المرشّح البديل.
لكنّ الأمر قد يكون أيضاً صدفة فرضتها معطيات داخلية وحسابات للحزب لا علاقة لها بما كان يجري في بكين على بعد أكثر من 7 آلاف كيلومتر من بيروت. فلا أدلّة حسّيّة تفيد بأنّ زعيم حزب الله قد أُبلغ سلفاً بما سيصدر في بكين في 10 آذار، أي بعد 4 أيام على بداية المفاوضات وإعلانه فرنجية مرشّحاً. ولأنّه على ما يبدو لم يعلم، فقد نصح بثقة في يوم دعم فرنجية بعدم التعويل على اتفاق بين الرياض وطهران، وأنّ “من ينتظر تسوية إيرانية سعودية سينتظر طويلاً”.
كان يعرف أم لا.. هذا لم يعد مهمّاً. أصبح حزب الله أمام واقع جديد وحاول استيعاب الصدمة بالاعتراف أنّها مربكة، وهو أمر تعترف به المنطقة والعالم، وهي صدمة مربكة، وخصوصاً لحزبه وتيار الممانعة الحليف. قال: “فيه ناس هيفرحوا، وناس هيزعلوا، وناس هيحكّوا قرعتهم، وناس هيحكّوا لحيتهم، وفيه ناس هيبلشوا يحلّلوا وبعدهم مش عارفين شيء من شيء”. وفي وصفه لهذه الحالات السيكولوجية صور دقيقة لما انتاب الحزب وبيئته وحلفاءه من حيرة ولبس وارتباك. فالحدث كان مباغتاً إلى درجة أنّ طهران لم تحتَج إلى تحضير جماعاتها الموالية، بما في ذلك إعلام حزبها في لبنان أو وضع أمينه العام في صورته.
ترحيب نصر الله “البارد”
اللافت أيضاً أنّ ترحيب نصر الله بالاتفاق جاء بارداً مصطنعاً لا يشبه الخطاب الذي يبرع به والذي أجاده منذ سنين ضدّ السعودية. حتى إنّ في حديثه عن “مصالح الشعوب والمقاومة والممانعة” ما يستبطن قلقاً على الرغم من مقاصده التطمينية. قال: “هذا التحوّل طيّب، ونحن سعداء (!) لأنّه عندنا ثقة أنّ هذا لن يكون على حساب شعوب المنطقة بل لمصلحة شعوب المنطقة، ويساعد في لبنان واليمن وسوريا والمنطقة، وثقتنا مطلقة بأنّ هذا لن يكون على حسابنا، ولا على حساب الشعب اليمني، ولا على حساب سوريا، ولا على حساب المقاومة”.
على أية حال، فإنّ ترحيب حزب الله بالاتفاق يأتي اتّساقاً مع أجواء تسرّبت من طهران وتمّ التقيّد بواقعها أيضاً من قبل كلّ الجماعات والتيارات والميليشيات الموالية لإيران في فلسطين والعراق وسوريا واليمن. وإذا ما كانت البيانات الرسمية تعبّر عن قرار بتبريد التوتّر والتخفيف من الحملات الإعلامية ضدّ الرياض، غير أنّ منابر الممانعة التي أصابها تيه معجون بدهشة، سارعت كالمعتاد إلى ارتجال نظريات بشأن انتصار إيران والتيار المقاوم في اتفاق بكين وخضوع الآخرين لشروطهما وقواعدهما ورؤيتهما لمستقبل المنطقة.
أهمّ جملة في بيان الاتفاق هي التأكيد على “احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية”
المفارقة أنّ “المنتصرين” في لبنان يروّجون لمعادلة سيُقدَّم وفقها لبنان على طبق ماسيّ إلى إيران مقابل تسويات سعودية إيرانية مقبلة تتخلّى بموجبها إيران عن اليمن.
صحيح أنّ الملفّ اليمني هو أولويّة بالنسبة للرياض ويمثّل امتحاناً حقيقياً لجدّية التزام إيران باتفاق بكين، غير أنّ منطق التسويات، خصوصاً في ظروف ولادة اتفاق على هذه الأهمية برعاية صينية، لا يوحي بنهايات تبسيطية مثل تلك التي يأملها الحزب ويصلّي لتحقيقها.
قد يكون محقّاً زعيم حزب الله في الدعوة إلى عدم التعويل على اتفاق سعودي إيراني لم يكن يتوقّعه. أراد من تلك الدعوة الاستناد إلى فائض قوة ما زال يعتقد أنّه حتمي لفرض رئيس للجمهورية في لبنان. غير أنّ اتفاق بكين قد يميل إلى الدفع باتجاه استقالة السعودية وإيران من الانخراط في شؤون البلد.
سفير إيران في لبنان
كرّر وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان التصريح عقب الاتفاق بأنّ “لبنان يحتاج إلى أن يعمل على تقارب لبناني لبناني وليس تقارب إيراني سعودي”.
في المقابل، وعلى نحو يدعو إلى التأمّل، فإنّ السفير الإيراني في لبنان مجتبى أماني شرح موقف بلاده بشأن لبنان. إذ قال في تغريدة: “هذه هي رؤية الجمهورية الإسلامية الإيرانية: وزير الخارجية السعودي تعقيباً على استئناف العلاقات الإيرانية السعودية: لبنان يحتاج إلى تقارب لبناني لبناني، وليس لتقارب إيراني سعودي، مشيراً إلى أنّ على لبنان أن ينظر إلى مصلحته، وعلى السياسيين فيه أن يقدّموا المصلحة اللبنانية على أيّ مصلحة أخرى”.
هكذا تبنّى الرجل كلّ كلمة نطق بها الوزير السعودي.
إقرأ أيضاً: السعوديّة – إيران: ماراتون النجاح أو الفشل؟
أيّاً تكن طموحات هذا وخيبة ذاك، فإنّ الاتفاق، على غموضه والحذّر في استشراف مفاعيله، بات أمراً واقعاً. وأهمّ جملة في بيان الاتفاق هي التأكيد على “احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية”. وعلى الرغم من صعوبة الإيمان بإرادة وقدرة إيران على الالتزام بذلك، إلا أنّ احتمالات الأمر تمثّل تحوّلاً باتجاه إنتاج رئيس قد يُصنع في لبنان ويمثّل لبنان وليس تابعاً لحزب أو أجندة يفرضها السلاح ورعاته. أمر قد يُضطرّ نصر الله إلى أن يتأمّله جيّداً، سواء كان على علم مسبق بالاتفاق أم لم يكن.