تاريخ العلاقات السعودية الإيرانية، تحديداً مع إيران الخمينية، هو تماماً تاريخ الفرص المهدورة لصياغة قواعد تعايش سلمي في الخليج.
سنوات الشاه الأخيرة لم تكن سنوات عسل بين الرياض وطهران، مع تسرّب سموم الطموحات الإمبراطورية الإيرانية التوسّعية في لحظة خروج بريطانيا من الخليج، واستشعار الشاه لفرصة الاستحواذ على ما تيسّر من أراضٍ عربية في مداه الحيوي كالبحرين، والجزر التي ستصبح لاحقاً جزر الإمارات المحتلّة، أي طنب الكبرى وطنب الصغرى اللتان تتبعان إمارة رأس الخيمة، وجزيرة أبو موسى التي تتبع إمارة الشارقة، وكانت “مؤجّرة” يومها لإيران، ضمن ترتيبات بين إمارة الشارقة والحكومة الإيرانية والوسيط الإنكليزي.
غياب عبد الناصر
غياب الزعيم المصري جمال عبد الناصر 1970، وبدايات تغيير التموضع الاستراتيجي لمصر، أطاحت مرتكزاً مهمّاً من مرتكزات التقارب بين السعودية وإيران منذ منتصف الخمسينيات وطوال الشطر الأكبر من عقد الستينيات، وأحيت الحساسيات الكامنة. مع ذلك حين اندلعت الثورة في إيران واظبت الرياض على إعلان وقوفها إلى جانب الشرعية في طهران، أي نظام الشاه الذي تتشارك معه الصفة الملكية. وحين انتصرت الثورة سارعت السعودية إلى قيادة موقف خليجي يعترف بالحكم السياسي الجديد، وبادرت إلى تهنئته كما تستوجب الأصول الدبلوماسية. حتى إنّ إمداد السعودية لإيران بالمحروقات، هو ما ساهم في تسيير الحياة اليومية في إيران التي اضطرب فيها، بنتيجة الثورة، الكثير من وجوه النشاط الاقتصادي، ومنها توقّف مصفاة عبادان عن العمل، وهي المسؤولة عمّا يعادل ثلثَي طاقة إيران التكريرية لتكون أكبر مصفاة نفط بالعالم آنذاك.
نجحت الجهود السعودية في فرملة سياسات الاسترضاء التي مارستها إدارة الرئيس باراك أوباما تجاه “هتلر المنطقة” عبر تعاونها مع إدارة الرئيس دونالد ترامب
أمّا ردّ إيران، فكان بجعل تصدير الثورة المذهبية قاعدة دستورية في الدستور الإيراني، وتأسيس أول “أحزاب الله” في المنطقة تحت عنوان “حزب الله الحجاز”. سرعان ما اندلعت حرب الخليج الأولى، لتستهلك جلّ عقد الثمانينيات ولتنتهي بتجرّع الخميني أول كؤوس السمّ في علاقة التنافس مع الخليج.
تحوّلات وفاة الخميني
شكّلت وفاة الخميني السريعة بعد انتهاء الحرب، وصعود هاشمي رفسنجاني إلى سدة الرئاسة، إشارة انطلاق لتحوّلات “ما بعد الحرب” على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتمثّلت بقيادة رفسنجاني مشروعاً هائلاً للتنمية الاقتصادية والخصخصة وإعادة إعمار ما هدّمته الحرب، والعناية بالتعليم. وقد شكّلت هذه التحوّلات مادّة تقاطع مع السعودية وسبباً لوضع قواعد جديدة بعيدة عمّا سبقها.
لكنّها كانت أيضاً سنوات صراع داخلي في إيران بين العائدين من الحرب الباحثين عن أثمان ما قدّموه وبين النخب الاقتصادية الجديدة الصاعدة على تدفّقات ما بعد الحرب وما خلقته من شبكات فساد وانتفاع لا تنتهي.
في منتصف التسعينيات تكثّف الحوار السعودي بين رفسنجاني عبر نجله وبين وليّ العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز، الذي أسرّ في إحدى لحظات الصفاء لنجل رفسنجاني بأن يطلب من والده البحث عن قطعة أرض يعتزم الأمير عبد الله شراءها وبناء قصر عليها ليكون له بيت في إيران! بيد أنّ الغيوم السوداء ما لبثت أن عادت لتلبّد سماء العلاقات السعودية الإيرانية عقب تفجيرات الخُبر عام 1996، والتي من غير المعلوم ما إذا كانت بفعل صراع التيارات الداخلية أم جزءاً من لعبة الازدواج التي تتقن إيران ممارستها. يقول لي مسؤول سعودي رفيع إنّ رفسنجاني كان يحاول إغراء جماعة الحرس بأن يفرغوا شحنات ثوريّتهم ضدّ إسرائيل وأن يتركوا له الخليج لعنايته الخاصة. ويُعتقد أنّ رفسنجاني ذهب إلى حدّ إجازة عملية تفجير مقر الجمعية التعاضدية اليهودية الأرجنتينية (آميا)، عام 1994، والذي أسفر عن مقتل 85 وإصابة المئات بجروح، لإثبات ثوريّته للنخبة الجديدة الصاعدة من رحم حرب الخليج الأولى، ومن بينها قاسم سليماني، والفوز باستقلالية إدارة ملف العلاقات الخليجية من دون أن يفلح.
وما لبث أن زار رفسنجاني السعودية عام 1998، بعد عام على رئاسة خلفه السيد محمد خاتمي، وأمضى عشرة أيام صاغ خلالها عدداً من التفاهمات المهمّة، التي أفضت إلى ولادة مناخ جديد في العلاقات السعودية الإيرانية، وكانت من علاماته العلنية البارزة الزيارة التاريخية المهمّة للرئيس خاتمي للمملكة في أيار 1999 كأول رئيس إيراني يزورها.
بيد أنّ البيئة الاستراتيجية الحاوية للعلاقات السعودية الإيرانية، كانت تشهد زلازل عميقة وهزّات تمهيدية للآتي من الأيام. فمناخ السلام الذي هيمن على عموم أدبيات التسعينيات كان يتهيّأ لغروب يفسح الطريق أمام صعود التطرّف الإسرائيلي منذ اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين عام 1995، ليلتقي مع اندلاع الانتفاضة الثانية في فلسطين عام 2000، وليليه زلزال 11 أيلول 2001 وما أطلقه من ديناميات سياسية واستراتيجية صبّت كلّها لصالح خيارات إيران التوسّعية في المنطقة. تماماً كما كانت وفاة عبد الناصر سبباً لانهيار دعائم التفاهم الإيراني السعودي، كانت هذه التطوّرات سبباً لتقدّم فرص المواجهة والهيمنة على فرص الحوار، وهما خياران يتعايشان في عقل كلّ مسؤول إيراني، بعيداً عن التقسيم الساذج للإيرانيين بين إصلاحيين صرف ومتطرّفين صرف.
في عهد محمد خاتمي بدأ التعاون الأميركي الإيراني لترتيبات تقاسم النفوذ والمصالح في العراق، وقبلها أفغانستان، وفي عهده أيضاً قُتل رفيق الحريري في بيروت، وفي عهده كانت طهران تتهيّأ للإمساك بالقرار السياسي في دمشق بعد وفاة حافظ الأسد وترؤّس نجله بشار، وفي عهده فُتحت الأبواب لـ”القاعدة” وقادتها للإقامة والتنسيق والدعم والرعاية والتهيئة لاستثمارها لاحقاً في الحرب المذهبية في العراق.
السعوديّة تفرمل أوباما
حين زار محمود أحمدي نجاد السعودية عام 2007 كان يستشعر أنّ الرهان على تفاهمات إيرانية أميركية وصل إلى حائط مسدود وأنّ إيران محاصرة بالعقوبات في إثر الكشف عام 2002 عن برنامج إيران النووي، وإعلان نجاد نجاح بلاده في التخصيب وتوالي التقارير الأممية عن ضعف التعاون الإيراني مع جهود وكالة الطاقة الذرية. جاء نجاد إلى الرياض، مأزوماً، كما تأتي إيران دوماً، من دون أن تثمر النوايا السعودية الطيّبة تجاه طهران ببناء قواعد مستدامة لعلاقات إيجابية. ثمّ عاد نجاد إلى الرياض مشاركاً في القمّة الإسلامية الطارئة عام 2012 وملاقياً استقبالاً حارّاً من الملك عبدالله بن عبد العزيز الذي أمسك بيده لحظة دخول قاعة المؤتمر. كانت الثورة في سوريا قد اندلعت وإيران تسعى إلى استيعاب الرياض وفرملة احتمالات ذهابها بعيداً في دعم مشروع إسقاط الأسد. مرّة أخرى سيثبت إتقان إيران للعبة شراء الوقت، وعدم جدّيتها في بناء قواعد ثابتة لعلاقات مستقرّة مع الخليج، لا سيما السعودية. يظهر ذلك في مضمون زيارة نجاد لمصر في أعقاب الربيع العربي والتي شكّلت محاولة سطو على أكبر دولة عربية وجرّها وهي تحت قيادة الإخوان المسلمين إلى حيث تقع مصالح إيران بالتمام والكمال.
منذ صعود الأمير محمد بن سلمان على ساحة القرار السعودي، وليّاً لوليّ العهد، ثمّ وليّاً للعهد، ثمّ رئيساً لمجلس الوزراء السعودي، وبعد قرار المملكة بمواجهة إيران في اليمن، وُضع إطار هو الأكثر توتّراً في العلاقات السعودية الإيرانية تمثّل في تصريحين في غاية الخطورة للأمير محمد، واحد يصف فيه خامنئي بهتلر المنطقة (بمعنى دعوة المجتمع الدولي إلى عدم مهادنته)، وثان يتعهّد فيه بنقل المعركة إلى داخل إيران.
لقد نجحت الجهود السعودية في فرملة سياسات الاسترضاء التي مارستها إدارة الرئيس باراك أوباما تجاه “هتلر المنطقة” عبر تعاونها مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، وتفاهماتها غير المباشرة مع إسرائيل، لإسقاط الاتفاق النووي الإيراني، ثمّ تفاهمات مماثلة مع روسيا لمنع العودة إلى الاتفاق مستفيدة من توظيف الحرب الروسية الأوكرانية. لا ننسى أنّ العودة إلى الاتفاق كانت قريبة في أيار 2022 حين أعلنت روسيا بشكل مفاجىء أنّ العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب غزوها لأوكرانيا عقبة أمام إحياء الاتفاق النووي الإيراني، وطالبت واشنطن بضمانات مكتوبة بأن لا تضرّ هذه العقوبات بتعاونها مع طهران، الأمر الذي سرّبت إيران وصفه بغير البنّاء.
إقرأ أيضاً: الاتّفاق السعوديّ – الإيرانيّ: نص مكتوب أو فعل مطلوب؟
كما نجحت جهود السعودية، لا سيما الإعلامية، إمّا عبر الإعلام السعودي المباشر، أو عبر الإعلام المموّل من السعودية مثل قناة “إيران إنترناشيونال” المعارضة التي تبثّ من لندن وباتت المصدر الأول للأخبار في إيران، في تشكيل حاضنة إعلامية مهمّة لكلّ ما يعتمل داخل المجتمع الإيراني من توتّرات. وقد وجّه القائد العام للحرس الثوري الإيراني، اللواء حسين سلامي، تحذيراً إلى المملكة العربية السعودية قائلاً: “لديّ نصيحة لنظام آل سعود، بشأن ماكيناتهم الإعلامية ووسائل إعلامهم التي تحاول جهاراً استفزاز شبابنا… احذروا، انتبهوا إلى سلوككم واكبحوا جماح هذه الوسائل، وإلا فإنّ آثارها السلبية سوف تنعكس عليكم”. وأضاف: “لقد تدخّلتم في شؤوننا الداخلية من خلال هذه الوسائل الإعلامية، لكن اعلموا أنّ لديكم نقاط ضعف“.
مجدّداً، إيران المحاصرة تأتي إلى السعودية بحثاً عمّا بحثت عنه دوماً: شراء الوقت وتقطيع المراحل. والأرجح أنّ التاريخ سيعيد نفسه ويكتب سطور فشل جديدة في رواية محاولات التعايش مع نظام الخميني.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@