“كافكاويّة” جوزف عون

مدة القراءة 5 د

بدأ قائد الجيش جوزف عون، وهو “المرشّح غير المُعلَن” لرئاسة الجمهورية، بالكشف عن ترشّحه رويداً رويداً. جولاته تقول ذلك وأكثر. باشر الرجل الظهور السياسي. فاتّهم من وصفهم بالموتورين (في إشارة إلى الفريق العوني) باختلاق الشائعات وفبركة الملفّات. “العونية” كظاهرة وكسلوك تستحق أكثر من محاكمة ومن مساءلة حساباً لها ولأركانها على مجموعة من الارتكابات في المؤسسات والإدارات، وصولاً إلى الشعبوية وإثارة النعرات: من “دعشنة” السُّنّة وصولاً إلى قبرشمون والشوف، وبينهما قرار تكسير رأس نبيه برّي، لكنّ هذا من شؤون السياسة والقوى السياسية والاجتماعية (المفقودة أصلاً في لبنان المهدور).

شعبويّة تحتقر القانون

أكثر ما كان لافتاً في ما قاله قائد الجيش ردّاً على باسيل، هو التالي: “إذا كان خرق القانون يتيح لي قبول مساعدات للمؤسّسة العسكرية لتأمين حاجات العسكريين… فسأخرق القانون”. إنّها شعبوية تردّ على شعبوية أخرى. بل هي نوع من استعراض قوّة في غير محلّه ولا مكانه. قد لا يصحّ أن يصدر عن قائد الجيش ومرشّح لرئاسة الجمهورية كلام فيه مفاخرة بقدرته وجرأته على خرق القانون. قبل ذلك اختلف مع وزير الدفاع حول أمور تقنية قبل أن يتصالحا في السراي الحكومي. 

قبل جوزف عون وبعده، لا يقلّ المرشّح سليمان فرنجية عنه جرأة في ادّعاء خرق القانون. فعل ذلك في وزارة الصحة. وجوده في وزارة الداخلية كان أكثر “جاذبية” في ترخيص لعبة “البينغو”

لبنان اليوم غارق في حال كافكاويّة (نسبة إلى كاتب العبث السوداوي فرانز كافكا) ركيزتها مضامين ثقافية وفلسفية تناولت الحياة وقدرات القوي إزاء عجز الضعيف عن ردّ الأذى الذي ينزل به. الضعيف في حالتنا هم عموم اللبنانيين. القوي هم الطغمة السياسية المقيمة في الحكم منذ عقود. وجوزف عون القادر على الجهر بخرق القانون، عليه ألا ينضمّ إلى تلك الطبقة.

الكافكاوية عالم مُعتم، لا قدرة للأفراد فيه على القيام بشيء مقابل القوى القاهرة. لا قدرة لهم حتى على فهم ما يُنزَل ويحلّ بهم. أساساً لا قدرة لهم على السيطرة على حيواتهم في مجتمع الأقوياء. القوي عند فرانس كافكا لا يكترث بذلك. وهذا يصحّ أيّما صحّة على ما يعيشه اللبنانيون بإزاء السلطات السياسية والنقدية والاقتصادية. وهم يخوضون يوميّات سوداء ميؤوس من مستقبلها.

العبث الأسود

يقف اللبنانيون بإزاء سلطة غير عقلانية تعتبر نفسها غير معنيّة بما آلت إليه أحوال البلد وأهله. لا تكترث لجوع مواطنيها وحرمانهم من الحدّ الأدنى لحفظ كرامتهم الإنسانية، وإقدامهم على الانتحار يأساً. المواجهة التي يخوضها اللبنانيون دفاعاً عن بقائهم هي مع سلطة هيوليّة، في محاولة لحلّ ما لا يُحَلّ بالتصريحات والوعود العرقوبية. لطالما كان قائد الجيش خارج هذه السلطة ويجب أن يبقى خارجها.

هذا العبث الأسود الذي آل إليه البلد، لجهة خرق القانون المتمادي من الجميع، وتفصيل قوانين خاصة لكلّ زعيم ومنطقة، أفضى إلى انهيار مجتمع تحكمه كتل أهليّة لا ترى إلى الأفراد إلا بوصفهم “جنس غريب”. وهي كتل بدأت تتحلّل مع فقدان الجماعات روابطها في الانهيار السوداوي الضاري.

لبنان اليوم غارق في حال كافكاويّة (نسبة إلى كاتب العبث السوداوي فرانز كافكا) ركيزتها مضامين ثقافية وفلسفية تناولت الحياة وقدرات القوي إزاء عجز الضعيف عن ردّ الأذى الذي ينزل به

قبل جوزف عون وبعده، لا يقلّ المرشّح سليمان فرنجية عنه جرأة في ادّعاء خرق القانون. فعل ذلك في وزارة الصحة. وجوده في وزارة الداخلية كان أكثر كارثية في ترخيص لعبة “البينغو”.

للمؤسّسة العسكرية وسائر الإدارات الأمنية وعديدها حقوق في تأمين الموارد لهم قبل غيرهم من العاملين في القطاعين العام والخاص. ذلك أنّ لهؤلاء موارد وساعات وأمكنة عمل مختلفة بخلاف العسكريين الذين ينتمون إلى مؤسّساتهم كمشاريع شهداء، فضلاً عن أنّ مهامّهم شديدة المشقّة. لكنّ كلّ هذا لا يبرّر ادّعاء القدرة على خرق القانون. حتى لو شنّ النائب جبران باسيل وماكينته السياسية والإعلامية أبشع الحملات الدعائية. وهو فعل بات عادة في علاقاته مع كلّ المكوّنات، وآخرها حلفاؤه في حزب الله.

تأمين الموارد وقبول الهبات والتبرّعات والمساعدات للجيش قبل سواه أمر ضروري. المؤسّسة العسكرية هي آخر ما بقي من هياكل مؤسّسات البلد. ووحدها تتحمّل مشقّة الحفاظ على السلم الأهلي البارد بين جماعات متحاجزة وترتفع جدران الكراهية بينها يوماً بعد يوم. لكنّ تدبير الموارد وتأمينها ينبغي لهما قبل أيّ شيء أن يكونا من مسؤولية السلطتين التنفيذية والتشريعية وعبر المراسيم والقوانين.

الهدوء والتعقّل

يجب ألا يُشبه كلام “القائد” كلام السياسيين العاديين. وإذا صحّ تصوير الوضع اللبناني في صورة ما، فالصورة الأوضح هي أنّ البلاد باخرة أُسلم قيادها لأشخاص متشابهين ليس بينهم قبطان. وهم يتصارعون على قيادة الباخرة المثقوبة المقبلة على الغرق شيئاً فشيئاً، ولا أحد يعير اهتماماً للركّاب.

إقرأ أيضاً: حان وقت البحث عن المرشّح الثالث

هذه الصورة تقول إنّ الركّاب في خطر شديد وعليهم التدخّل أقلّه لإنقاذ أنفسهم. مع هذا فإنّ احتمال تحرّك اللبنانيين لا يتعدّى صفراً. في الأثناء فقد لبنان كلّ شيء: علاقاته مع العرب. صلاته الخارجية. اقتصاده. المستشفى. التعليم الرسمي، وقسطاً كبيراً من جودة التعليم الخاص. كلّ الهمّ محصور في إبقاء الصراع على جنس الملائكة.

جوزف عون حافظ على المؤسّسة العسكرية من ضمن واجباته وفي أكثر الظروف حراجة. لكنّ قيادة الجيش عوّدتنا على هدوء أكبر، وهو الهدوء نفسه الذي تحتاج إليه رئاسة الجمهورية. 

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…