حتى الساعة نتمسّك في لبنان بأدوات الحداثة لا بالحداثة نفسها. نتمسّك بالمصرف والكومبيوتر وأجهزة الهاتف الذكيّة. لكن في المقابل نرفض من الحداثة أساسها: الدولة والاقتصاد الدولتيّ، ونقبل باقتصاد المافيا والعصابات. هكذا نمضي في العيش بلحظة سابقة على الدولة والسياسة، ونتمسّك بالطائفة والمذهب والعائلة.
في هذه الحال لن تقوم للبنان قائمة من دون بتّ مسألة الانحياز نهائياً إلى الدولة، والقطع نهائياً مع الهويّات الضيّقة التي تبقينا في أشكال من التنظيم الاجتماعي سابقة جدّاً على الدولة كفكرة تتطوّر باستمرار.
لبنان في الأساس بلدٌ لا ينتج شيئاً ويستورد كلّ شيء. لذلك الفقر العامّ ناشئ عن انهيار اقتصادي وليس بسبب تحوّلات اقتصادية واجتماعية لم نلحق بها. وهذا حسم الضعف التكوينيّ للبلد
سياسيّو الخراب
إذا صحّ أنّ السياسة ليست فعلاً لاإراديّاً وغير عاطفيّ، صحّ أيضاً أنّ أغلب السياسيين كان لهم الدور المؤكّد في هذا الخراب العميم. ذلك أنّ الطبقة السياسية تتحمل مسؤولية كاملة عن التعثّر في آذار من عام 2020، على ما يؤكّد خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد محمد فحيلي. فكلّ القرارات التي أصابت في الاقتصاد مقتلاً كانت سياسية بامتياز على ما يقول:
– الدعم العشوائي للاستيراد في سنة 2021، عوضاً عن دعم الصناعة والإنتاج الوطني.
– عدم إقرار موازنات والإنفاق على القاعدة الاثني عشريّة.
– إقرار سلسلة الرتب والرواتب.
– عدم إقرار قانون الكابيتال كونترول في الوقت المناسب.
– التنصّل من مسؤولية إدارة الأزمات ورمي هذه المسؤولية على كاهل مصرف لبنان.
– عدم الاستجابة لطلبات الأسرة الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي لجهة إقرار الإصلاحات.
– الاستمرار بإقرار النفقات من دون إيرادات.
– عدم ترشيق القطاع العامّ ووقف التوظيف السياسي.
– كفّ يد الهيئات الرقابية.
– واليوم عدم انتخاب رئيس للجمهورية.
هكذا لم يعُد مفاجئاً القول إنّ جزءاً كبيراً من المسؤولية عائد إلى القيادة السياسية التي، منذ التسعينيات، أطلقت سياسات نيوليبرالية جائرة في بلد خارج من الحرب ويقوم اقتصاده على العائدات غير المنظورة (التمويلات الحربية، المخدّرات، المرافىء غير الشرعية، الخوّات، المساعدات السياسية…).
لم يعد ممكناً بناء اقتصاد في ظلّ هذا القصور السياسي. كذلك من الاستحالة البناء اعتماداً على الهبات. صار على لبنان اختراع وظيفة ودور جديدين، وعليهما تقديم هويّة جديدة
بيروت الخراب والأحزان
لبنان في الأساس بلدٌ لا ينتج شيئاً ويستورد كلّ شيء. لذلك الفقر العامّ ناشئ عن انهيار اقتصادي وليس بسبب تحوّلات اقتصادية واجتماعية لم نلحق بها. وهذا حسم الضعف التكوينيّ للبلد.
والحال هذه، لم يعد ممكناً بناء اقتصاد في ظلّ هذا القصور السياسي. كذلك من الاستحالة البناء اعتماداً على الهبات. صار على لبنان اختراع وظيفة ودور جديدين، وعليهما تقديم هويّة جديدة.
بيروت صارت مدينة الخراب والأحزان. بحرها ما عاد يفضي إلى مكان. الشجر ما عاد إغراءً… فدبي مدينة مكيّفة. إذا أردنا بناء لبنان من خارجه كما في عام 1860 فالسؤال: كيف نفعل ذلك؟ التمويل أثبت عدم جدواه. وإعادة بناء الاقتصاد هي الضرورة التي تقوم عليها الدولة. لكن كيف يمكن ذلك في ظلّ طغيان ميليشياوي اسمه “حزب الله”.
خطيئة المصارف
لا يروم هذا الكلام بحال من الأحوال تبرئة المصارف من مسؤوليّتها وسياساتها غير الرشيدة التي أدّت إلى انهيارها وحوّلت شعباً بكامله إلى متسوّلٍ. أهميّة البنوك هي في إمداد الاقتصاد بالأموال وتنظيم الدورة الاقتصادية. وأيّ خلل في هذا الدور يُحدث تصدّعاً في الاقتصاد والاجتماع. هذا ما حصل تماماً في لبنان. لكنّ ذلك يوجب القراءة مجدّداً في دور المصارف وأهمّيتها المتزايدة في تطوّر الدول، وبالطبع مسؤولية الدولة عن إفلاس المصارف بسبب سياسات الحكومات التي أجبرتها على الاستثمار في سنداتها عبر مصرف لبنان.
منذ نشوء الدول الحديثة صارت المصارف عصباً أساسياً من أعصاب الدولة. في بريطانيا عندما تبيّن تعارُض خطّة رئيسة الوزراء ماري ليز تراس مع سياسات المصرف المركزي الذي أكّده الخبراء الماليون، استقالت من منصبها. كان يعني ذلك استقالة السياسة وتقدّم الاقتصاد لحماية القطاع المصرفي.
عندنا الأمور تمضي على العكس. ما زالت ثقافة معاداة الاقتصاد والأسواق تلقائية وموروثة من القرن الماضي. الفرق بين ما قبل الدولة والدولة، أنّه في الثانية يتقدّم الاقتصاد على السياسة ويبقى هو ضمان صوابها. لذا أُطيح في المملكة المتّحدة بحكومة كاملة لثقة الناس بالمصرف المركزي. تتمثّل المشكلة في لبنان في انعدام الثقة بالسياسة وخطط المصرف المركزي معاً.
يحقّق الفرد والمستثمر في لبنان تطوّراً اجتماعياً وثروات من القروض والتسهيلات البنكية التي تقدّمها المصارف لهؤلاء. والعلاقة التبادلية بين الطرفين هي التي تضمن تطوّر الاقتصاد، وبالتالي الدولة. على هذا يمكن التأكّد من أهمية المصارف، لكن حتماً ليست المصارف الموجودة عندنا، بلا استثناء، بدءاً من المصرف المركزي نزولاً إلى أصغر مصرف.
إقرأ أيضاً: نصف المودعين “شيعة”… فمتى الانتفاضة؟
خيال لبنانيّ مستحيل
فلنتخيّل أنّ السياسيين اللبنانيين تصرّفوا بمسؤولية أخلاقية في الاقتصاد الوطني. لكن هيهات. لقد استولت عليهم غريزة المحاصصة والصراعات ذات الطابع القبلي والعصبوي. فكايدوا بعضهم بعضاً وتكبّدوا مشقّات المناكفات من دون التنبّه إلى الاقتصاد بوصفه ضمانة كلّ الدول الحديثة والمعاصرة. وقد تغلّبت عليهم حماسة الحضور والنجومية، لا الإنجازات.
كثير منهم لا يندرج في هذه الخانة. وكثير منهم أيضاً تأسّفوا صادقين على الانهيار. لكن هذا ما عاد يفيد في لجم السقوط المتمادي. ما يعانيه لبنان راهناً ليس نقصاً في سلعة ما، أو قلقاً على قطاع ما. ما يحصل أخطر من ذلك: إغلاق كلّ الأبواب والنوافذ على العالم المعاصر من خلال الإرباك الراهن وعدم تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، التي كان يجب أن تحصل منذ تسعينيات القرن الماضي.
والحال أنّ لبنان المنهار والذي كُسِر من فوق، وتحديداً من السياسة والاقتصاد جرّاء قصور فادح في الإدارة، ينبغي أن يُحدّد من يتحمّل المسؤولية عن هذا الانهيار فيما يستمرّ بمنصبه مع إهماله للبلد وأهله…. وينبغي إعادة الاعتبار للاقتصاد، قبل السياسة.