“ثلث المودعين في المصارف اللبنانية من الشيعة”، ينقل أحد الدبلوماسيين العرب بناءً على معلومات “دقيقة”. وهو واحد من “الغارقين” في الشأن اللبناني. ويضيف: “كلّما ارتفعنا فوق المليون دولار، ترتفع النسبة، وربّما تصل إلى النصف”.
وهذا رقم منطقي. فالتقديرات تشير إلى أنّ الشيعة في لبنان يشكّلون ثلث اللبنانيين، إذا احتسبنا معهم المهاجرين والعاملين في دول الاغتراب، خصوصاً في إفريقيا، المتّصلين بالنظام المصرفي اللبناني.
لكن لماذا؟ وما السبب في أنّ النظام المصرفي، الذي تتألّف “نخبته” المالكة من المسيحيين والسُّنّة، معظم مودعيه من الشيعة؟
“ثلث المودعين في المصارف اللبنانية من الشيعة”، ينقل أحد الدبلوماسيين العرب بناءً على معلومات “دقيقة”
الجواب بسيط وأسهل ممّا يتوقّع المتسائلون: أمام المسيحيين والسُّنّة والدروز تنفتح أبواب العالم كلّه، من شرقه إلى غربه، من أوروبا إلى الخليج وأميركا وإفريقيا، في حين أنّ الشيعة أُقفلت أمامهم أبواب العالم كلّه، على مراحل، في السنوات العشر الأخيرة، ولم يعد أمامهم سوى لبنان ومصارفه.
“السلاح لم يحمِ الودائع”
لنتذكّر هنا ما نقله 4 دبلوماسيّين عرب في 4 دول إفريقيّة أساسيّة، إلى إدارتهم المركزية. نقل الأربعة، وهم غير متّصلين، عن رجال أعمال شيعة لبنانيين في دولهم، فكرة مهولة: “السلاح لم يحمِ الودائع”.
كاتب هذه السطور نقل هذا الكلام في 12 أيّار 2022، قبل أيّام من الانتخابات النيابية. وتصديقاً على هذا الكلام، “5% من شيعة إفريقيا، في أفضل تقدير، صوّتوا لحزب الله وحركة أمل… وهذا يعني أنّ أكثر من 95% منهم حجبوا أصواتهم لسبب أو لآخر“.
أحد هؤلاء قال لدبلوماسي عربي: “لدينا 40 مليار دولار تبخّرت في المصارف، ولا يستطيع السلاح حماية إرث آبائنا وثروات أولادنا وأحفادنا”.
وحين يقول أثرياء الشيعة في إفريقيا إنّ “السلاح لم يحمِ الودائع”، فهم يقولون، استطراداً، قولاً لا يُلفَظ ولا يُكتَب: “لقد دفعنا ثمن هذه الحماية، ولم تتأمّن”. أي أنّ هؤلاء دفعوا أثماناً، إن بالتبرّعات لـ”المقاومة”، أو بتحمّلهم الضغوطات السياسية والماليّة “حول العالم”.
قد يفسّر هذا سبب “الاسترخاء” الأميركي، أو قُلْ “الإصرار” الأميركي على ضرب الاقتصاد النقدي (اقتصاد “الكاش” الذي شاع في لبنان في الأعوام الأخيرة)، وعن سبب الرغبة “الدولية” في الحفاظ على جثّة المصارف، وعدم دفنها حالياً، من خلال عدم التسريع في السقوط النهائي، وعدم إعلان موت المصارف نهائياً.
ربّما الوقت لم يحِن بعد للصدمة الكبيرة. لكنّ من يعلمون، باتوا يعلمون…
حين يقول أثرياء الشيعة في إفريقيا إنّ “السلاح لم يحمِ الودائع”، فهم يقولون، استطراداً، قولاً لا يُلفَظ ولا يُكتَب: “لقد دفعنا ثمن هذه الحماية، ولم تتأمّن”
14 ضعف موازنة الحكومة
يقول أحد السفراء العرب إنّ هناك “تقنيّة أساء الكثير من المراقبين، خصوصاً العرب، تقديرها: وهي القدرة على الصمود باللحم الحيّ في لبنان”. وهي تقنيّات “لا تعالج الأزمة، ولا توقف الانهيار، لكنّها مسكّنات وجدها اللبنانيون في خزائنهم، وما كانوا منتبهين إليها قبل الأزمة”.
ما هي هذه التقنيّات؟
من المعلَن في الأرقام الرسمية أنّ لبنان دخلت إليه بين 6 و7 مليارات دولار سنوياً من المغتربين خلال السنوات التالية على الأزمة، ومثلها دخلت من خارج النظام المصرفي ومن خارج القدرة على رصدها، ضمن “اقتصاد الكاش” (موازنات الأحزاب وكلّ أشكال الدعم السياسي الماليّ، وأموال التهريب، وتبييض الأموال، وما يدخل في جيوب المسافرين والمغتربين، إضافة إلى أموال الكريبتو وما شابهها)، أي ما يقارب 14 مليار دولار، أي 14 ضعف موازنة الحكومة، التي لم تزِد على مليار دولار “فريش” في عام 2022.
إذاً اللبنانيون، بلا حكومة ولا موازنة ولا دول مانحة ولا صناديق دولية، يحصلون سنوياً على 14 مليار دولار جعلتهم في مأمن من الجوع منذ بدء مسلسل الانهيار المالي والاقتصادي في نهاية 2019، قبل 4 سنوات تقريباً.
هذا “الصمود باللحم الحيّ” هو سبب عدم انفلات الأمن الاجتماعي حتى الآن، وتراجع مستوى الجريمة نسبة إلى “أسوأ كارثة ماليّة في تاريخ البشرية منذ 150 عاماً”، بحسب البنك الدولي.
لكنّ هذه المليارات هي مسكّنات وليست علاجاً، لا تمنع الموت، ولا توقف تمدّد السرطان.
انفجار الطبقة الشيعيّة الوسطى؟
لنعد إلى كلام الدبلوماسي العربي: “نصف “كبار المودعين” هم من الشيعة، وثلث المودعين بشكل عام هم من الشيعة”. ونضيف إليه ما قاله سفير عربي “محوريّ” في لبنان، ضمن أحد المجالس الخاصة مع صحافيين وناشطين، قبل أشهر. فقد توقّع أنّ مطلع عام 2023 سيشهد “انفجار الطبقة الوسطى” في لبنان. وتحدّث عن “مليون حساب لبناني تحت المليونَي دولار”. وقال إنّ هؤلاء هم “محرّكو البلد اقتصادياً وتجارياً”، ولا بدّ سينتفضون حين يعرفون أنّ ودائعهم طارت، حين يتعطّل النظام المصرفي نهائياً.
إقرأ أيضاً: سلاح الحزب: كنزُنا الوحيد… أو أزمتنا المديدة؟
يعني هذا أنّ الأزمة المصرفية التي يعيشها لبنان اليوم، من القضاء وصراعاته مع المصارف وبينها وبين المودعين، إلى “انحشار” قوانين خطة التعافي الحكومية بين مجلس النواب وصندوق النقد الدولي، وصولاً إلى الإضرابات والإفلاسات المتوقّعة و”إعادة هيكلة المصارف”… كلّها نقاط على خريطة “السقوط الماليّ الكبير”، الذي تتوقّع بعض الدول أنّه لن يتأخّر، وقد يؤدّي إلى “ثورة جديدة”، من الطبقة الوسطى التي ستجد نفسها في الشارع مع الفقراء.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@