تتوقّع روسيا ضربةً مالية توجّهها إليها الولايات المتحدة وحلفاؤها أعضاء الاتحاد الأوروبي تتجاوز في حجمها وفي شدّة وقعها كلّ العقوبات التي فُرضت عليها منذ أن بدأت الحرب الأوكرانية قبل عام ونتيجة لها. وتتمثّل هذه الضربة في استصدار قرار دولي من الأمم المتحدة (مجلس الأمن) يقضي بمصادرة الودائع الماليّة الروسية في العالم وتحويلها إلى أوكرانيا كتعويضات لها على ما لحق بها من دمار وخسائر.
الحرب ومسؤوليّاتها
لا يُعرف بالتحديد حتى الآن حجم الودائع المالية الروسية في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وغيرها. لكنّها تُقدّر بعدّة مئات من مليارات الدولارات.
من أجل ذلك تؤكّد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على أنّ روسيا هي التي بدأت الحرب، وبالتالي تصنَّف الحرب على أنّها حرب روسيا على أوكرانيا. يشكّل هذا الوصف ضرورة قانونية لتحميل روسيا مسؤولية الحرب، ثمّ تبرير مصادرة ودائعها المالية في كلّ العالم للتعويض على أوكرانيا.
ليست أوكرانيا وحدها المستفيد من هذا التدبير السياسي – المالي. فبولندا تطالب أيضاً بالتعويضات عمّا لحق بها من أضرار وخسائر بشرية وماليّة جرّاء الاحتلال المزدوج الذي تعرّضت له من روسيا وألمانيا معاً، قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية.
ليس من الصعب على الثنائي الأميركي – الأوروبي أن يستصدر حكماً من المحكمة الدولية في لاهاي يؤكّد حقّ أوكرانيا بالتعويضات ويشرّع تحويل الودائع الروسية إليها لإعادة بناء الدولة الأوكرانية التي دمّرت الحرب بنيتها التحتية
لم تغفر بولندا لألمانيا احتلالها وارتكاباتها أثناء الاحتلال النازي. ولذلك ترى في الإجراءات التي يجري إعدادها لحمل روسيا على دفع تعويضات لأوكرانيا، أساساً ومدخلاً لمطالبة ألمانيا بالتعويض عليها أيضاً.
هناك سوابق تستند إليها بولندا في تبرير طلبها. فألمانيا دفعت أخيراً تعويضات ماليّة لناميبيا في إفريقيا بسبب الجرائم التي ارتكبتها القوات الألمانية هناك في التسعينيات من القرن الماضي. كذلك أعادت ألمانيا إلى نيجيريا مجموعة من التماثيل البرونزية التاريخية التي كانت قوات ألمانية قد استولت عليها. هذه الإجراءات المتأخّرة تثبت أنّ مرور الزمن لا يُسقط العدالة، ومهما طال الوقت ومهما استمرّ الإنكار والتنكّر، فلا بدّ للعدالة أن تأخذ مجراها، ولا بدّ للحقوق أن تعود إلى أصحابها.
المثال البولونيّ
على أساس هذه القاعدة العامّة صوّت هذا الشهر 418 عضواً في مجلس النواب البولوني من أصل 460 عضواً يتألّف منهم مجلس النواب. إلى جانب قرار مطالبة ألمانيا بالتعويض عمّا ارتكبته أثناء فترة الاحتلال النازي من جرائم ومن تدمير واسع النطاق.
ولم تكتفِ بولندا بالقرار الذي صدر عن مجلس النواب، بل أجرت استفتاءً عامّاً صوّت بنتيجته ثلثا الشعب البولوني مع مشروع المطالبة بالتعويضات من ألمانيا.
من المعلوم أنّ ألمانيا وبولندا اليوم تقفان في جبهة حلف شمال الأطلسي ضدّ روسيا. ولكن سبق لروسيا وألمانيا أن احتلّتا بولندا معاً قبل الحرب العالمية الثانية، وتقاسمتاها، بل وألغتا الدولة البولونية. لذلك تقف بولندا بحماسة شديدة مع أوكرانيا ضدّ روسيا. وتستقبل من المهاجرين الأوكرانيين أكثر من أيّ دولة أوروبية أخرى. فبولندا ذاقت آلام ومرارات الاحتلال الإلغائي للدولة.
في هذا الوقت الذي تقوم فيه بولندا بواجبها الإنساني تجاه ضحايا الحرب الروسية في أوكرانيا، تطالب بالتعويض عليها بسبب خسائرها من الاحتلال النازي.
يشكّل الردّ الألماني على الطلب البولوني الأساس الذي ستبني عليه روسيا ردّها على إجراءات مصادرة ودائعها المالية في الدول الغربية لتقديمها إلى أوكرانيا تعويضاً لها عمّا أصابها بسبب الحرب الروسية.
لم تغفر بولندا لألمانيا احتلالها وارتكاباتها أثناء الاحتلال النازي. ولذلك ترى في الإجراءات التي يجري إعدادها لحمل روسيا على دفع تعويضات لأوكرانيا، أساساً ومدخلاً لمطالبة ألمانيا بالتعويض عليها أيضاً
بديل مارشال
لا تستطيع ألمانيا أن تقول “لا” لبولندا، لأنّ ذلك يتناقض أوّلاً مع السلوك الألماني في التعويض لليهود (عبر إسرائيل)، وكذلك لناميبيا ونيجيريا، ولأنّه ثانياً يتناقض مع القرار الأميركي – الأوروبي المعلن بمصادرة الودائع الروسية للتعويض على أوكرانيا.
ليس من الصعب على الثنائي الأميركي – الأوروبي أن يستصدر حكماً من المحكمة الدولية في لاهاي يؤكّد حقّ أوكرانيا بالتعويضات ويشرّع تحويل الودائع الروسية إليها لإعادة بناء الدولة الأوكرانية التي دمّرت الحرب بنيتها التحتية. وليس من الصعب على هذا الثنائي أن يحمي هذا الحكم الدولي بقرار يصدر عن الأمم المتحدة (المجتمع الدولي).
وإذا حدث ذلك فسيكون البديل عن “مشروع مارشال” الذي اعتمدته الولايات المتحدة لمساعدة أوروبا على إعادة بناء مجتمعاتها التي دمّرتها الحرب العالمية الثانية (ألمانيا النازية).
تطرح هذه التطوّرات السياسية – الحقوقية السؤال المحرّم حتى الآن: متى وكيف سيفرض المجتمع الدولي على إسرائيل التعويض على الشعب الفلسطيني؟
إقرأ أيضاً: حرب أوكرانيا… وكلام تشرشل
حصلت دولة إسرائيل باسم اليهود الذين اضطهدتهم النازية على التعويضات من ألمانيا، فهل تعطيل قيام دولة فلسطينية، ولو على جزء من الأرض الفلسطينية، يعطّل قيام السلطة الشرعية التي لها الحقّ بنيل التعويض؟ وهل يكون “طبيعياً”، والحال هذه، أن يطالب الفلسطينيون بمصادرة ودائع إسرائيل في العالم للتعويض على الفلسطينيين عمّا ارتكبته بحقّهم من مجازر ونكبات وتهجير وترانسفير مستمرّ منذ 80 عاماً؟