تُعتبر مدينة أوديسا واحدة من أهم المدن الأوكرانية. أسّست هذه المدينة على البحر الأسود الملكة كاثرين في القرن الثامن عشر، وأُقيم لها تمثال كبير فيها. اليوم لم يعد التمثال موجوداً. أسقطه الأوكرانيون وتعاملوا معه كرمز لدولة عدوّة هي روسيا.
جُمعت كتب تولستوي وماياكوفسكي وبوشكين ودوستويفسكي وسواهم، فأُحرق بعضها، والصالح منها نُقل إلى المنازل لاستعماله في المراحيض البيتيّة.. والعامّة.
لم يعد في أيّ مدينة أوكرانية تمثال يذكِّر بروسيا أو يرمز إليها. حتى أسماء الشوارع تغيّرت لتحمل أسماء جديدة لشخصيات أوكرانية، بعضها ضحايا الحرب المتفجّرة حتّى اليوم. حتى الكنائس الأرثوذكسية انقسمت على ذاتها. فالأوكرانيون لا يصلّون إلا في الكنائس التي تقاطع الكنيسة الروسيّة والتي لا تعترف بالبطريرك كيريل.
قد تكون هذه المؤشّرات سطحيّة في حرب طاحنة ومدمّرة، إلا أنّها تشير إلى أنّ الوضع وصل إلى مرحلة اللاتسوية، وهنا مصدر الخطر.
لم يعد في أيّ مدينة أوكرانية تمثال يذكِّر بروسيا أو يرمز إليها. حتى أسماء الشوارع تغيّرت لتحمل أسماء جديدة لشخصيات أوكرانية
رسمت الحرب الأوكرانية أمام العالم علامتَيْ استفهام كبيرتَيْن:
– الأولى هي: ماذا لو ربحت روسيا (الرئيس بوتين) الحرب؟ هل تكتفي باستعادة أوكرانيا إلى الدولة الروسيّة أو إكراهها على الخضوع لها؟ وماذا عن بقيّة دول الجوار؟ ثمّ أيّ نظام عالمي سيقوم؟
– الثانية هي: ماذا لو خسرت روسيا الحرب؟ ماذا يحلّ بالدولة المترامية الأطراف والمتعدّدة القوميّات والأديان؟
توحي محاولة الإجابة على السؤال الأوّل بأنّ روسيا سوف تعمل على الهيمنة ليس فقط على كلّ أوروبا، بل على آسيا أيضاً، وأنّها سوف تقيم حلفاً مع الصين، وبالتالي سوف تعمل على فرض نظام عالمي جديد.
أمّا الجواب على السؤال الثاني فهو أنّ روسيا لن تتأخّر في استخدام السلاح النووي للدفاع عن دورها وعن وجودها. وقد أشارت إلى احتمال إقدامها على ذلك عندما تجد نفسها مضطرّة. ولا يوجد عامل يفرض الاضطرار أكثر من الشعور بالهزيمة أو باقتراب الهزيمة.
وبين احتمالَيْ الربح الذي يعني نظاماً جديداً بزعامة الكرملين، والخسارة التي تعني تفجير صراع نووي، هناك طريق ثالث عبر الحلّ السياسي. إلا أنّ هذا الطريق مقفل حتى الآن. الدولة الوحيدة التي عرضت نفسها وسيطاً هي تركيا. ذلك أنّها، على الرغم من كونها عضواً في حلف شمال الأطلسي، لم تشارك مع دول الحلف في دعم أوكرانيا عسكريّاً، وقد أبقت على “شعرة معاوية” مع كلّ من الكرملين والبيت الأبيض. إلا أنّ تركيا، التي تستعدّ لانتخابات رئاسة مصيريّة، تلملم جراحاتها من تحت أنقاض الزلزال الرهيب الذي أصابها.
بين احتمالَيْ الربح الذي يعني نظاماً جديداً بزعامة الكرملين، والخسارة التي تعني تفجير صراع نووي، هناك طريق ثالث عبر الحلّ السياسي
تريد الولايات المتحدة أن تقدّم من خلال الحرب في أوكرانيا درساً للصين حتى تفكّر طويلاً وطويلاً جدّاً في العواقب الكارثية التي تنتظرها إذا أقدمت على محاولة استرجاع تايوان بالقوّة العسكرية، علماً بأنّه ليس مسموحاً أميركيّاً للصين أن تسترجع تايوان حتى بالقوّة الدبلوماسية. ذلك أنّ تقدُّم تايوان في إنتاج الإلكترونيّات المتطوّرة، ولا سيّما الرقائق التي تُستخدم في الصواريخ العابرة للقارّات والأقمار الصناعية والهواتف المحمولة، يجعل من إبقائها تحت المظلّة الأميركية هدفاً استراتيجيّاً لواشنطن غير قابل للمساومة.
من هنا أهمية تفشيل الرئيس بوتين في إخضاع أوكرانيا وتحميله غالياً جدّاً ثمن محاولات إخضاعها لهيمنة الكرملين، حتى يصل الدرس واضحاً وبشكل مباشر إلى بكين. فأوكرانيا ليست أكثر أهميّة بالنسبة إلى المصالح الاستراتيجية الأميركية من تايوان.
شهد القرن العشرون حربين عالميّتين انطلقتا من أوروبا. ومع بداية القرن الواحد والعشرين تبدو أوروبا وكأنّها لم تتعلّم الدرس من خلال الثمن الباهظ الذي دفعته بشراً وحجراً في الحربين السابقتين.
إنّ حشر الرئيس بوتين بين الهزيمة والسلاح النووي ليس سياسة حكيمة. صحيح أنّ انتصاره خطر على الديمقراطيات الغربية، إلا أنّ هزيمته خطر على السلام في هذه الديمقراطيات وفي العالم.
من هنا ضرورة البحث عن الحكمة لمعالجة الأزمة الأوكرانية سياسياً وسلميّاً. غير أنّ هذه الحكمة لا تزال غائبة، أو مغيّبة حتى الآن. فالعالم كلّه يقف أمام خيارين أحلاهما مرّ: إمّا انتصار “البوتينيّة” بما تعنيه من هزيمة للديمقراطيات الغربية، أو انتصار الديمقراطيات الغربية فوق أشلاء القصف النووي.
إقرأ أيضاً: أوكرانيا تنتصر “إلكترونياً”: حرب فرسان “الرقائق”
في كتابه “الطريق إلى جهنّم (1914-1918)” يروي المؤرّخ الأميركي أيان كيرشو كيف أنّ أوروبا أُصيبت بالجنون مرّتين في القرن الماضي (الحرب العالمية الأولى ثمّ الثانية). ويبدو أنّها لم تَشفَ من مرض هذا الجنون حتى الآن. وها هي تمشي بعيون مفتوحة نحو صدام نووي مع روسيا من خلال تصوير بوتين وكأنّه هتلر القرن الواحد والعشرين.
والسؤال الآن: من هي المدينة المرشّحة لأن تكون هيروشيما أو ناكازاكي؟