تغيّر العالم. وتغيّرت العلاقات بين دول العالم. العامل الذي يقوم بهذا التغيير هو الرقائق الإلكترونية، التي أصبحت تقع في صميم الاقتصاد العالمي. كلّ شيء في عالم اليوم يتوقّف عليها، من الرسائل الإلكترونية الشخصية إلى الصواريخ الموجّهة والعابرة للقارّات مروراً بالسفن الفضائية والأقمار الصناعية.
هذا يعني أنّ من يملك المادّة الخام والمعلومات الفنّيّة لصنعها، يملك مفتاح القوّة، سواء كان ذلك في الاقتصاد أو في الحروب والصراعات أو في السياسة.
بدأت المسيرة نحو هذه الرقائق في عام 1947 عندما اخترع العلماء راديو الترانزيستور. وخلال عقود قليلة تمكّنوا من ربط مجموعة من الترانزيستورات فوق قطعة من السيليكون ليجعلوا منها دائرة متواصلة. بذلك وُلدت الصناعة الإلكترونية. ووصلت هذه الصناعة اليوم إلى امتلاك الموقع الأكثر تقدّماً في مجالات الحياة كافّة، سواء في السلم أو في الحرب.
يمكن أن يُطلق على الحرب في أوكرانيا أو على أوكرانيا أوصاف مختلفة، لكنّها الحرب الأولى في تاريخ الصراعات بين الدول التي تُدار إلكترونيّاً.
يعتقد الخبراء الغربيون أنّ الاستعدادات الروسية الإلكترونية للحرب الأوكرانية قامت على أساس حسابات المواجهة العسكرية الأولى التي وقعت في عام 2014
آخر الحروب التقليدية
كانت الحرب الكورية آخر الحروب الكلاسيكية. في عام 1967 استخدمت إسرائيل طائرات مسيّرة لتضليل أجهزة الرادار المصرية، ثمّ للانقضاض على المطارات العسكرية المصرية وتدمير الطائرات وهي جاثمة على الأرض. وفي عام 2010 استخدمت إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة “ستاك نت”، وهو جرثومة إلكترونية، لتضليل جهاز الدفاع الإيراني الإلكتروني وتشويش المعلومات التي يُفترض اعتمادها للدفاع عن سرّية المفاعل النووي الإيراني.
حتى عندما بدأت روسيا “العملية العسكرية الخاصّة” في أوكرانيا قبل حوالي سنة، عرفت الحكومة الأوكرانية بالعمليّة قبل ساعة من التنفيذ من خلال جهاز المراقبة الإلكتروني “فيّا سات” الذي كان يُستخدم للاتّصالات التجارية المدنية!
لقد خطّط الروس لعمليّة عسكرية في أوكرانيا لا تتطلّب أكثر من أسبوع واحد. وأعدّوا أجهزتهم الإلكترونية على هذا الأساس. إلّا أنّ الحرب الآن تجاوزت 51 أسبوعاً. وهي مستمرّة. لذلك تقصّر الأجهزة الإلكترونية الروسيّة في ما يتعلّق بالأعمال الاستطلاعية.
يعتقد الخبراء الغربيون أنّ الاستعدادات الروسية الإلكترونية للحرب الأوكرانية قامت على أساس حسابات المواجهة العسكرية الأولى التي وقعت في عام 2014. يومذاك تراجعت أجهزة المراقبة الإلكترونية الأوكرانية واحتمت خارج الحدود لشعورها بالدونيّة وبالعجز عن مواجهة الآلة العسكرية الروسيّة المتطوّرة. تغيّر هذا الواقع الآن بمساعدة من الولايات المتحدة، وبتعاون مع حلف شمال الأطلسي. فالمعلومات الأميركية – الأطلسية الجديدة عزّزت الدفاعات الأوكرانية، وساعدت على توجيه ضربات مؤلمة إلى الخاصرة الروسيّة. وهذا ما يفسّر وقوع أعداد من الجنود الروس في الأسر، ثمّ مبادلتهم بجنود أوكرانيين أسرى لدى الروس.
ما يجري في أوكرانيا على صعيد عمل أجهزة المراقبة الإلكترونية يشكّل درساً لأطراف الصراع على الجبهة المتوتّرة بين الصين وتايوان
التفوّق الأوكراني – الأميركي
نجحت الدول الغربية (أميركا وأوروبا) في إغراق أوكرانيا بالمعلومات والصور المأخوذة من الفضاء الخارجي للتجمّعات العسكرية الروسية. كانت القوات الأوكرانية تعرف مسبقاً بالاستعداد الروسيّ للهجوم. وكانت تستعدّ له. وربّما يكون أبرز هذه الأحداث ما وقع في 24 شباط الماضي عندما أعدّت روسيا هجوماً أرادته أن يكون هجوماً ساحقاً لحسم الحرب. ولكنّ المعلومات الإلكترونية الغربية عرفت به، وزوّدت أوكرانيا بتفاصيله، فكان أن تراجعت القوات الأوكرانية إلى ما وراء مدى المدفعية الروسية. وعندما توقّف القصف عادت هذه القوات إلى مواقعها الأولى لتوجّه إلى القوات الروسية صدمة شديدة انعكست تغييراً في القيادة العسكرية الروسيّة.
من هنا أصبحت أجهزة الاستطلاع الإلكترونية جزءاً أساسيّاً من المعارك الحربية. ذلك أنّ هذه الأجهزة كانت تنقل إلى الأوكرانيين معلومات عن تحرّكات القوات الروسية وعن مواقع تموضعها في الجبهات، الأمر الذي أدّى إلى وقوع الخسائر البشرية بين القوات الروسية.
ليست أجهزة المراقبة الإلكترونية التابعة للولايات المتحدة ولدول الحلف الأطلسي الأخرى وحدها التي تقدّم هذه الخدمات الاستخباراتية المهمّة إلى أوكرانيا، لكنّ هناك أجهزة أخرى تابعة لمؤسّسات غربية خاصة تتنافس على تقديم مثل هذه الخدمات أيضاً. ومنها على سبيل المثال مؤسّسة مايكروسوفت التي تعمل من سلوفاكيا وتراقب كلّ التحرّكات على الشبكة الروسية والأوكرانية من خلال عمليات التمشيط الإلكتروني التي تقوم بها على مدار الساعة!!
وما يجري في أوكرانيا على صعيد عمل أجهزة المراقبة الإلكترونية يشكّل درساً لأطراف الصراع على الجبهة المتوتّرة بين الصين وتايوان. ذلك أنّ تايوان للصين مثل أوكرانيا لروسيا. وهي مثل أوكرانيا أيضاً بالنسبة إلى الاستراتيجيات الدفاعية الغربية (الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأقصى وفي مقدَّمهم اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا).
إقرأ أيضاً: أوكرانيا: جولة في كواليس حرب التجسّس
وعلى الجبهتين الأوروبية والآسيوية، تحتلّ المعارف الإلكترونية موقعاً متقدّماً وأساسيّاً في تقرير نتائج الربح أو الخسارة.
لم يعد هناك مكان للبطولات وللفروسيّات القديمة. ولا للخطط العسكرية المباشرة والالتفافيّة. أصبحت المعارف الإلكترونية هي التي تتولّى الحسم. ومن يعرف أوّلاً، يصبح أوّل.