أوكرانيا: جولة في كواليس حرب التجسّس

مدة القراءة 9 د

تنطوي حرب أوكرانيا على صراع خفيّ يضاهي القتال الفعليّ على الأرض: صراع الجواسيس والعملاء بين روسيا وأوكرانيا ومن يدعمها.

تشكّل حرب الجواسيس شطراً مهمّاً من المجهود الحربي الشامل لأجهزة استخبارات كلّ من موسكو والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا: من تجنيد الجواسيس والقضاء عليهم ونشر المعلومات المضلّلة والدعايات المغرضة، إلى النشاطات السرّية الأشدّ عدوانية. وكما يؤكّد ضابط سابق مخضرم في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي.آي.إي)، تُعتبر معلومات الجواسيس مرجعاً في قضايا الأمن الدولي ومكافحة الإرهاب، وهي تتعمّد التضليل، إذ يُخفي التجسّس 50 في المئة ممّا يحدث بالفعل، وهذا ما تقوم به حالياً الأجهزة التي تنسج روايات تطمئن الجمهور الذي يشعر بقلق متزايد من مسار حرب أوكرانيا والعواقب المؤلمة المحتملة للتدخّل فيها.

يرى جيرالدي أنّ الملاحظات الأخيرة التي أدلى بها في لندن رئيس جهاز الاستخبارات البريطاني المعروف باسم “إم.آي. 5” (MI5) كين ماكالوم، كانت تهدف إلى تعزيز الرسالة بأنّ الحكومة البريطانية تهتمّ جيّداً بالأمن القومي

ضرر طرد البعثات الروسيّة

لا يقلّل فيليب جيرالدي، الضابط الاستخباراتي السبعيني، الذي عمل سنوات عدّة في وكالة الاستخبارات الاميركية، وخدم 18 سنة في تركيا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا، من أهمّية العمل التجسّسيّ وقدرته على تغيير دفّة الصراع. وينتقد تفاخُر جهازَيْ الاستخبارات الأميركية والبريطانية بجهودهما لجمع المعلومات عن نقاط الضعف الروسية وعمليّات الطرد الجماعي للدبلوماسيين و”الجواسيس” الروس، مشيراً إلى ادّعاءات جهاز المخابرات البريطانية توجيه “ضربة استراتيجية” لقدرة الكرملين على التجسّس في أوروبا. وينبّه إلى أنّ الحدّ من قدرة روسيا على التجسّس من خلال بعثاتها الدبلوماسية والتجارية يؤدّي أيضاً إلى الحدّ من القدرات الخاصة للجهازين البريطاني والأميركي. إذ كيف يمكنهما كسب الحرب السرّية ضدّ روسيا من خلال طرد أهدافهما المحتملة وإعادتها إلى ديارها في موسكو، فهذا سيُفقدهما جهودهما لتجنيد الأشخاص الذين طردوهم؟ ثمّ كيف يتمكّن المعارضون الروس الذين فرّوا من بلادهم من تقديم معلومات استخبارية مفيدة تتّصل بالقرار في الكرملين؟

هذا ما ورد في مقال بعنوان “الحرب السرّية في أوكرانيا” كتبه جيرالدي لموقع مجلس المصلحة الوطنية الأميركية The Council for the National Interest، الذي يشغل منصب مديره التنفيذي. يرى الكاتب أنّ الصراع السرّيّ الخفيّ يوازي القتال الفعليّ على الأرض. وينبغي افتراض أنّ مجموعة متنوّعة من الجواسيس الغربيين يعملون على جميع المستويات في مناطق أوكرانيا المجاورة: بولندا ودول البلطيق. ومن المؤكّد أنّ لدى الروس مخبرين داخل الحكومة الأوكرانية. وأثبتت كييف أنّها قادرة على تنفيذ ما يُسمّى أعمالاً سرّية في موسكو، ومنها اغتيال داريا دوجين بسيارة مفخّخة في 20 آب من العام الماضي. ومن المعروف أنّ وكالة الاستخبارات المركزية CIA وجهاز الاستخبارات البريطاني MI-6 يعملان لجمع المعلومات عن نقاط الضعف في القدرات الهجومية الروسية وتحديد الأفراد الذين يُحتمل تجنيدهم من مناهضي الرئيس فلاديمير بوتين في دونباس.

الخطأ هو الصواب

يتذكّر جيرالدي نكتة مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية بيل كيسي، الذي عيّنه الرئيس رونالد ريغان في شباط 1981: “سنعلم أنّ برنامج المعلومات المضلّلة الخاصّ بنا قد اكتمل عندما يكون كلّ ما يعتقده الجمهور الأميركي خاطئاً”. ويضيف جيرالدي: إذا كان الاقتباس دقيقاً، فمن المحتمل أن يُسعد كيسي برؤية الجهود الدعائية الضخمة التي قام بها البيت الأبيض بإدارة جو بايدن لبدء وإدامة حرب بالوكالة ضدّ روسيا كان من الممكن تجنّبها تماماً ولا تخدم أيّ مصلحة وطنية أبعد من اختبار كيفية إعادة إحياء الحرب الباردة بالتلويح بالإبادة النووية. ربّما كان كيسي يقترح أنّه لا ينبغي لأحد الوثوق بأيّ شيء يخرج من فم مسؤول حكومي رفيع، خاصةً إذا كان ذلك المسؤول ضابط مخابرات.

لذا يرى جيرالدي أنّ الملاحظات الأخيرة التي أدلى بها في لندن رئيس جهاز الاستخبارات البريطاني المعروف باسم “إم.آي. 5” (MI5) كين ماكالوم، ونشرتها شبكة “سي إن إن”، كانت تهدف إلى تعزيز الرسالة بأنّ الحكومة البريطانية تهتمّ جيّداً بالأمن القومي. بعبارة أخرى، كان ينوي نسج رواية من شأنها طمأنة الجمهور الذي يشعر بقلق متزايد بشأن مسار حرب أوكرانيا والعواقب المؤلمة المحتملة الناشئة عن التدخّل البريطاني المباشر فيها.

تنطوي حرب أوكرانيا على صراع خفيّ يضاهي القتال الفعليّ على الأرض: صراع الجواسيس والعملاء بين روسيا وأوكرانيا ومن يدعمها

ما يروّج له ماكالوم هو أنّ “الحرب في أوكرانيا جيّدة للأمن القومي لأنّها سمحت بطرد المئات من عملاء المخابرات الروسية في جميع أنحاء أوروبا”، وأنّ “قدرة الكرملين على التجسّس في أوروبا تلقّت أهمّ ضربة استراتيجية في التاريخ الحديث بعد الترحيل المنسّق للدبلوماسيين الروس منذ غزو روسيا لأوكرانيا، ورفض بريطانيا مئة طلب للحصول على تأشيرات دبلوماسية في السنوات الأخيرة لأسباب تتعلق بالأمن القومي”. وحسب ماكالوم “المسألة الخطيرة هي طرد 600 مسؤول روسي من أوروبا في العام المنصرم وحده، 400 منهم يُعتبرون ضبّاط استخبارات سرّيّين، وإبعاد 23 جاسوساً روسيّاً تظاهروا بأنّهم دبلوماسيون، والعمل مستمرّ لجعل المملكة المتحدة أصعب بيئة لأعمال روسيا السرّيّة. ونظراً إلى تبادل معلومات مكافحة التجسّس في دول حلف الناتو، لم يعد سهلاً على الروس تشغيل أيّ ضابط طُرد من الدولة “أ” في الدولة “د”. وهذا يجعل عمل عدد كبير من طواقم الاستخبارات الروسية المدرّبة أقلّ فائدة لسنوات مقبلة”.

نشاط غير ناجح

لكن وفقاً لجيرالدي هناك شيء مهمّ مفقود في رواية جهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني: طرد الدبلوماسيين والجواسيس الروس قبل حرب أوكرانيا كان بإيعاز من فولوديمير زيلينسكي. وجهاز الاستخبارات البريطاني  MI-5وحلف شمال الأطلسي كانا يخطّطان لشيء ما مسبق. لكنّ الطرد كان متبادلاً: ما فُعِل مع الروس فعلته موسكو التي طردت ضبّاط استخبارات أجانب ورفضت قبول أوراق اعتماد دبلوماسيين. وهذا يعني أنّ الحدّ من قدرة روسيا على التجسّس أدّى أيضاً إلى تقليل قدرات بريطانيا.

يضيف جيرالدي: “لا أعرف هل كانت المخابرات الغربية قد اخترقت الكرملين من خلال تجنيد مسؤول روسي أو أكثر من الدائرة المقرّبة من حكومة فلاديمير بوتين. لكنّني أفترض أنّ هذه هي الحال”، معتبراً أنّ جواسيس من هذا المستوى يتلقّون بانتظام وسائل إلكترونية آمنة للتواصل مع رؤسائهم الأميركيين أو البريطانيين.

يقرأ جيرالدي مؤشّرات أخرى تدلّ على أنّ المخابرات الغربية تبحث عن مصادر جديدة للمعلومات. هذا ما أوضحه الروس أنفسهم. وهناك قصص في وسائل الإعلام الغربية عن استياء الروس العاديّين من الحرب، بينهم بعض كبار مستشاري وضبّاط بوتين الذين ينتقدون التطوّرات. قد تكون هذه القصص المسرّبة من الحكومات الغربية المعادية لروسيا، صحيحة أو خاطئة، على الرغم من أنّ استطلاعات الرأي الروسية تشير إلى أنّ بوتين لا يزال يحظى بنسبة 70 في المئة من التأييد. وذكر موقع روسيا اليوم الرسمي أنّ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تكثّف جهودها لتجنيد الروس الساخطين. واستند في معلوماته إلى جامعة جورج ميسون في فيرجينيا، وقول نائب مدير العمليات في الوكالة ديفيد مارلو إنّ ضباط وكالة الاستخبارات المركزية بالخارج شاركوا في استغلال “أرض خصبة” لتجنيد عملاء روس من الضبّاط الساخطين والأوليغارشيين الذين رأوا ثرواتهم تتضاءل بسبب العقوبات، وغيرهم من رجال الأعمال الفارّين من روسيا.

يشير جيرالدي إلى ما قاله مارلو في صدد ذلك: “نحن نبحث في جميع أنحاء العالم عن الروس الذين يشعرون بالاشمئزاز من الصراع في أوكرانيا”. لكنّه لم يشرح كيف يتمكّن المعارضون الروس الفارّون من تقديم معلومات استخبارية مفيدة عن اتخاذ القرار في الكرملين. وشجبت روسيا المحاولات العلنية لتجنيد ما بقي من دبلوماسيّيها وملحقيها العسكريين في أوروبا والولايات المتحدة من خلال ما يسمّى “الملاعب الباردة”.

وفقاً لجيرالدي “تشير التقارير الروسيّة إلى أنّ ضبّاطاً أميركيين كانوا يتسكّعون حول السفارات الروسية ويمرّرون إلى أولئك الذين يغادرونها أو يدخلون إليها أرقام هواتف للتواصل مع مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية. لكنّ هذه الرسائل الباردة نادراً ما تنجح. لذلك هناك بعض التناقض في ما يدّعيه كلّ من ماكالوم ومارلو بشأن كسب وكالتيهما الحرب السرّية ضدّ روسيا من خلال طرد أهدافهما المحتملة وإعادتها إلى ديارها في موسكو”.

يختم جيرالدي: “التجسّس مهنة لا مثيل لها. وما يحدث الآن في أوكرانيا وحولها يميل إلى إثبات هذه المسلَّمة. لكنّ الجميع يعلم أنّ وكالة الاستخبارات المركزية مفتوحة للعمل الآن”.

إقرأ أيضاً: هل ينقذ الأسد أردوغان… أو يشهد رحيله؟

فيليب جيرالدي: ولد عام 1946. كاتب ومستشار أمنيّ أميركي. المدير التنفيذي لمجلس المصلحة الوطنية الأميركية منذ عام 2010. عمل سابقاً ضابط استخبارات في سي.آي.إي. متخصّص في قضايا الأمن الدولي ومكافحة الإرهاب. خدم 18 سنة في تركيا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا. كان رئيساً لمكتب الوكالة في برشلونة من 1989 إلى 1992، وعُيّن ضابطاً للوكالة لدعم الألعاب الأولمبية.

The Council for the National Interest منظمة غير ربحية مستقلّة تقدّم معلومات وتحليلات عن الشرق الأوسط والسياسة الأميركية المتعلّقة بهذه المنطقة مع التركيز على إسرائيل وفلسطين. أسّسها عضوا الكونغرس السابقان بول فيندلي وبيت مكلوسكي. تضمّ في مجلس إدارتها السيناتور جيمس أبو رزق والسفراء السابقين: إدوارد بك وروبرت كيلي وبيتر فيرنينغ.

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدريك هوف: خطوات ترسم مستقبل سوريا

حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها…

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…