من “إرفعوا أيديكم القذرة عن تركيا” في رسالة من وزير الداخلية التركي سليمان صويلو قبل الزلزال بساعات إلى “شكراً على يد المساعدة والعون” على لسان أكثر من مسؤول تركي بعد ساعات على الزلزال. يعني أنّ التنبّه لحَسَك السمكة الكبيرة في البلعوم على مائدة الطعام التركية – الأميركية ضروري في كلّ لحظة.
وصل قبل أيام وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى أنقرة في إطار جولة يقوم بها وتشمل ألمانيا واليونان إلى جانب تركيا. هو يضمِّن الزيارة إعلان بلاده عن دعمها لتركيا في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها بعد كارثة الزلزال المدمّر الذي ضرب جنوب البلاد في 6 شباط الحالي. ويعلن أنّ واشنطن قرّرت رفع أرقام مساعدتها إلى 185 مليون دولار، ويؤكّد أنّ الدعم سيتواصل، لأنّ “الشراكة صامدة في وجه كلّ التحدّيات”.
قبل زيارة بلينكن وبعدها
لكن المواقف التركية كانت على المنوال التالي:
– وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو يردّد وهو في طريقه إلى واشنطن الشهر المنصرم للقاء نظيره الأميركي بلينكن، أنّ أميركا بدأت تحيد عن سياسة التوازن بين أنقرة وواشنطن التي اعتمدتها منذ عقود.
الرئيس رجب طيب أردوغان، ردّد أمام الشباب الأتراك قبل ساعات من حدوث الزلزال: “أنّ دولاً أوروبية والولايات المتحدة تبذل جهوداً مكثّفة للتأثير على نتائج الانتخابات المرتقبة في تركيا”
– وزير الداخلية التركي سليمان صويلو هاجم السفير الأميركي في أنقرة جيف فليك قبل يومين فقط من وقوع الزلزال في جنوب البلاد، بعدما لعبت السفارة الأميركية دور “رأس حربة” في تحريض 8 دول أوربية لتغلق أبواب قنصليّاتها في إسطنبول، كتدبير أمني إحترازي بشأن احتمال وقوع هجمات إرهابية. وقال الوزير التركي عينه: “أعرف جيّداً كيف ترغب هذه الجهات في إثارة الفتنة في تركيا، كما نعرف من هم الصحافيون الذين يلقِّنهم السفير مقالات وتقارير حول بلادنا”.
– الرئيس رجب طيب أردوغان، ردّد أمام الشباب الأتراك قبل ساعات من حدوث الزلزال في الجنوب: “أنّ دولاً أوروبية والولايات المتحدة تبذل جهوداً مكثّفة للتأثير على نتائج الانتخابات المرتقبة في تركيا”.
أمّا اليوم وبعد زيارة الوزير بلينكن تركيا، فنرى مصادر الخارجية الأميركية تشير إلى:
– يؤكّد بلينكن على وجود تفاهمات ثنائية للعمل عن قرب في مجموعة من القضايا، بينها الدفاع والطاقة والتجارة.
– يعلن نيد برايس المتحدّث باسم الخارجية الأميركية أنّ الوزير بلينكن أبلغ نظيره التركي بأنّ عليه أن “يرفع سماعة الهاتف ويخبرنا” بما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة لتقديم المساعدة بعد الزلزال القوي الذي ضرب البلاد.
أمّا شاويش أوغلو فيخاطب نظيره الأميركي باسمه الأول 4 مرّات على الأقلّ خلال المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقداه في أنقرة قائلاً: “إنّ المحاثات تخلّلتها عملية تقويم شامل للعلاقات، وجرى التفاهم على أهمية الشراكة القائمة بين البلدين”. واستقبل أردوغان الضيف الأميركي في العاصمة التركية ساعة كاملة.
بلينكن الذي تعمّد عدم الحضور إلى أنقرة لعامين كاملين مضيا على تسلّمه لمنصبه مخالفاً عن قصد تقاليد أسلافه في الخارجية الأميركية الذين كانوا يزورون العاصمة التركية في الأشهر الثلاثة الأولى من تولّيهم مناصبهم كأبعد تقدير، لإظهار حجم العلاقة الاستراتيجية بين البلدين. وهذا ما كان يعكس مدى توتّر العلاقات وتدهورها بسبب:
– تباعد المواقف والمصالح في سوريا.
– الانفتاح التركي على روسيا وصفقة الصواريخ أس – 400.
– التوتّر التركي – اليوناني في إيجه وشرق المتوسط.
– الفيتو التركي على عضوية السويد وفنلندا في الحلف الأطلسي.
السويد وإنجرليك والأرمن
ملفت توقيت زيارة بلينكن وتزامنها مع زيارة مماثلة للأمين العام للحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ أنقرة قبل 3 أيام، والمرتبطة حتماً بنقاشات التوسعة الأطلسية، طالما أنّ ستولتنبرغ أعلن من العاصمة التركية أنّه حان وقت التصويت على عضوية السويد في الحلف. الملفت أيضاً أن تكون قاعدة “إنجرليك” العسكرية التركية في أضنة، نقطة تحرك في زيارة بلينكن، ليذكّر الجميع أنّ واشنطن ما زالت هناك استراتيجياً، حتى ولو قال وزير الخارجية الأميركي أنّ القاعدة تلعب اليوم دوراً في وصول وتوزيع المساعدات الأميركية للمنكوبين. نرى هذا التحوّل في المواقف بعدما تعالت الأصوات التركية المطالبة بإخراج القوات الأميركية من القاعدة العسكرية، إثر قبول الرئيس بايدن قبل 4 سنوات بأنّ ما جرى عام 1915 هو “إبادة جماعية للأرمن”. وهذا ما دفع القيادة التركية إلى تذكير واشنطن أنّ “إنجرليك” قاعدة عسكرية تركية وقد تستغني عن الوجود الأميركي فيها.
انتهت زيارة وزير الخارجية التركي إلى واشنطن قبل شهر، من دون أيّ نتائج إيجابية معلنة ومن دون مؤتمر صحافي مشترك، ومن غير أن تتحرّك المصادر الموثوقة في الجانبين للحديث عن تحوّل او ليونة في المواقف. وهذا شاويش أوغلو يجلس إلى يمين أردوغان قبل توجهه إلى واشنطن بساعات، وهو يستقبل وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، الذي كان يريد حماية حصّته في التقارب والحوار بين أنقرة ودمشق، على الرغم من غضب واشنطن واعتراضاتها. والرئيس التركي يتّصل بنظيره الروسي بوتين على الفور ليطلعه على نتائج هذه المحادثات، فيما مستشار الأمن القومي ومندوب أميركا الدائم في الأمم المتحدة السابق جون بولتون كان يهدّد بإعادة النظر في موضوع عضوية تركيا الأطلسية وحرمانها من امتيازات استراتيجية عسكرياً وأمنياً واقتصادياً، تتمتّع بها ردّاً على عرقلتها عضوية السويد وفنلندا.
انتهت زيارة وزير الخارجية التركي إلى واشنطن قبل شهر، من دون أيّ نتائج إيجابية معلنة ومن دون مؤتمر صحافي مشترك، ومن غير أن تتحرّك المصادر الموثوقة في الجانبين للحديث عن تحوّل او ليونة في المواقف
هل حسّنت زيارة بلينكن العلاقات؟
لا طبعا لأنّ رسائل التباعد القائم بين البلدين في الملفّات الخلافية لم تغب عن المشهد:
– الوزير بلينكن يقول إنّ “إدارة الرئيس بايدن تؤيّد بيع مقاتلات أف – 16 وبرنامج التحديث لتركيا”.
– لكنّها تؤيّد بشدّة انضمام الدول الإسكندنافية إلى حلف شمال الأطلسي في أسرع وقت ممكن. وفنلندا والسويد اتّخذتا خطوات ملموسة بموجب المذكّرة الموقّعة مع تركيا على هامش قمّة الأطلسي في حزيران المنصرم.
لكن شاويش أوغلو وأنقرة يردّان:
– لا يمكن لتركيا شراء مقاتلات “إف-16” الأميركية بشروط مسبقة، غامزاً من قناة عدم الربط بين التوسعة الأطلسية مع السويد وفنلندا مقابل تمرير صفقة الطائرات.
– تريد أنقرة أوّلاً “في أقرب وقت ممكن رفع العقوبات الأميركية الأحادية عن تركيا، والمعتمدة بعد صفقة الصواريخ الروسية قبل 4 سنوات”.
– إعادة مليار و400 مليون دولار دفعتها تركيا في شراكة مشروع المقاتلة أف – 35 الذي أبعدتها واشنطن عنه.
– الالتزام بتفاهمات رفع أرقام التبادل التجاري من 32 مليار دولار إلى 100 مليار كما أعلن.
إقرأ أيضاً: انتخابات تركيا: لمن سيصوّتُ الزلزال؟
إذا ستبقى العلاقات تحت رحمة ملفّات خلافية كثيرة. ومن دون تقدّم ملموس في مسار حلحلتها لن يكون هناك أيّ اختراق سياسي حقيقي، حتى ولو تراجعت خيارات تركيا في مسألة القيام بعملية عسكرية في شرق الفرات ضدّ حليف واشنطن هناك، وحتى ولو عدلت انقرة من انفتاحها الواسع على موسكو الذي ترى فيه واشنطن سبباً لتخفيف طوق الحصار عن روسيا الذي فرضته الولايات المتحدة والدول الأوروبية، عقاباً على حربها على أوكرانيا. فقناعة كثيرين في تركيا هي أنّ على أميركا التراجع أولاً عن محاولات عزل تركيا وإضعافها إقليمياً، والبحث عن فرص ووسائل كسب أنقرة إلى جانبها، بعدما تزايد نفوذها وموقعها الإقليمي في التعامل مع ملفّات استراتيجية حسّاسة تعني أميركا.
لكن أين ستظهر الليونة الأميركية في ملفات خلافية لا تُحصى ولا تُعدّ؟ وهل يكون بلينكن هو من حمل ما يكفي من العروض المغرية لأنقرة هذه المرّة، بعدما عاد شاويش أوغلو فارغ اليدين من واشنطن قبل شهر؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@