ما تزال المناطق الفلسطينية تشهد تصعيداً ملموساً في المواجهات مع قوات الاحتلال، وهو ما أنتج تخوّفاً إسرائيلياً على مستوى القيادات السياسية والميدانية من أن يكون شهر رمضان المبارك، الواقف خلف الباب، شهراً ساخناً بفعل المواجهات المتوقّعة، وخصوصاً في العاصمة الفلسطينية القدس.
حذّرت من التصعيد القياداتُ الأمنيّة الإسرائيلية، صاحبة التجربة الطويلة في المواجهات مع الفلسطينيين، واتّهمت المتطرّف إيتمار بن غفير، وزير الأمن الإسرائيلي، بأنّه المسؤول المباشر عنه من خلال سياسته المغالية في استفزاز الفلسطينيين، وعنوانها في هذه الفترة “السور الواقي 2”. أي أنّ القدس الشرقية ذات الكثافة السكّانية العالية هي بمنزلة “غزّة ثانية” ينبغي حصارها وإعلان حرب عسكرية مباشرة عليها.
وما يدعو بن غفير، حليف بنيامين نتانياهو، وبيضة القبّان في بقاء ائتلافه الحكومي على قيد الحياة، إلى إعلان سياسته الحربية ضدّ الفلسطينيين في القدس، وكلّ الضفّة بالطبع، مع استعجاله الحكومة الإسرائيلية بحرب استباقية على غزّة، هو ما جسّدته القدس تحديداً من دور مركزي فعّال في حماية نفسها من التغوّل الاحتلاليّ عليها. سواء حين كان بن غفير مجرّد مستوطن مطلوب للشرطة، أو حين أصبح قائداً لها ولغيرها من قوى الأمن الداخلي الإسرائيلي بأفرعها المتعدّدة والكثيرة.
المعضلة التي تحيّر الإسرائيليين وتضع جبروتهم التقليدي أمام تحدٍّ لا يعرفون كيف يواجهونه، أنّ من يقومون بالعمليات الفعّالة في القدس أو في أماكن أخرى من الضفّة وداخل إسرائيل ذاتها، هم أطفال وشبّان ورجال ونساء
قبل بن غفير أفشلت القدس سياسة المتاريس الحديدية التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية لتقييد حركة المواطنين المدافعين عن مدينتهم، وأفشلت أيضاً نصب الكاميرات في باحة الأقصى وأماكن أخرى الذي كان هدفه التضييق على المرابطين المقاومين.
القدس “غير آمنة” للإسرائيليين
كذلك لم تعد القدس، بفعل المرابطين فيها والساهرين على مكانتها الفلسطينية والعربية والإسلامية والمسيحية، عمليّاً العاصمة الموحّدة لإسرائيل، كما أعلنت حكوماتها، وكما ادّعت ذلك صفقة دونالد ترمب الغابرة. إذ لا يستطيع إسرائيليّ التجوّل فيها ليلاً أو نهاراً إلا وهو مدجّج بالسلاح أو تحت حماية الجيش والشرطة، وذلك وفق اعتراف بن غفير نفسه. لكنّ هذه الإجراءات لا تكفي، وعلى كلّ الإسرائيليين حمل السلاح في المدينة التي صارت أقرب إلى ساحة حرب منها إلى عاصمة حقيقية.
غير أنّ هنالك أمراً فاجأ الإسرائيليين والعالم، وحتى الفلسطينيين أنفسهم، وهو العمليّات القتالية التي نفّذها أطفال من أهل المدينة دون الخامسة عشرة من العمر، بمسدّسات ربّما تكون بدائية، فإذا بها تُحدث خسائر قياسية بين الإسرائيليين لم يسبق أن حدث مثلها أو ما هو قريب منها على مدى زمني طويل.
المعضلة التي تحيّر الإسرائيليين وتضع جبروتهم التقليدي أمام تحدٍّ لا يعرفون كيف يواجهونه، أنّ من يقومون بالعمليات الفعّالة في القدس أو في أماكن أخرى من الضفّة وداخل إسرائيل ذاتها، هم أطفال وشبّان ورجال ونساء يقومون بأعمال المقاومة العنيفة والموجعة على عاتقهم الخاص، ومن دون وجود أدنى صلة لهم بالفصائل الفلسطينية أو أجهزة السلطة. وهو ما يجعل من القضاء على الظاهرة أمراً مستحيلاً. فمن يقوى على تحديد من هو الطفل الذي سيفعل ما فعله أقرانه عند حصوله على مسدّس؟ ومع من تتحدّث إسرائيل المصرّة على التنسيق الأمني مع السلطة، فيما المقاومون من خارج سيطرتها، بل ولا علم لها بهم؟
إقرأ أيضاً: لا يدفع الفلسطينيّون وحدهم الثمن
المقاومة في كلّ بيت
ما يحدث في فلسطين وأضحى حديث الناس هو ظاهرة مفادها أنّ المواطنين العاديّين من مختلف الأعمار ذكوراً وإناثاً هم الذين يفعلون على الرغم من إمكاناتهم المحدودة جدّاً. أمّا الزعماء، ذوو الإمكانيّات الهائلة والمسمّيات الفخمة، فهم مكبّلون بحساباتهم ومصالحهم وارتباطاتهم، وهو ما حدّد دورهم الفعليّ في الحالة الفلسطينية وفق معادلة لم تحدث من قبل.
“الأطفال يفعلون والكبار يحتفلون”. وبتوضيح أكثر، الأطفال وكلّ من تسمّيهم إسرائيل “الذئاب المنفلتة”، أحالوا الفصائل التقليدية إلى التقاعد، والمصيبة التي يبدو أن لا حلّ لها أنّ المتشبّثين لن يتقاعدوا إلا بعد الوفاة.