رفيق الحريري: مشاهد غير منشورة

مدة القراءة 9 د

مشهد أوّل:

كانت الساعة قرابة السادسة عصراً حين وصلنا إلى مدخل القصر. بين غسق الطبيعة وغصّة الحشود، لم أتمكّن من رؤية معالمه بوضوح. كانت المرّة الأولى التي أطؤه فيها، فيما سيّده كان قد استشهد قبل ساعات. مفارقة ليست تفصيلاً. عبّرتُ عنها لاحقاً، وفي أزمة أخرى، بالتحسُّر أنّنا لم نتصالح إلا عند الموت وعلى القبور والضرائح. علّنا نعتبر ونتعلّم كيف نتصالح على حياتنا ولأجلها.

كنّا قد تداعينا كلّنا للاجتماع هناك. لقاء قرنة شهوان ولقاء البريستول ومكوّنات المعارضة السياديّة كافّة. على باب المبنى كانت الوجوه تفيض حزناً جفّف كلّ دمع. لم يترك في العيون غير أثر محفور لسيل من الغضب المكبوت.

ترافقنا أنا وصديق أصيل من أركان التيار الوطني الحر. عند الباب كان ثمّة شاب مسؤول. عرفنا وجهه من الإعلام كأحد مرافقي رفيق الحريري. استقبلنا بإيماءة تهذيب ممزوج بانكسار اللحظة. فتح لنا ممرّاً بين المحتشدين لندخل الدار. لمّا صرنا بموازاته، نظر إلى رفيقي بعتب مجروح وقال له:

“شو يا أستاذ… بعدو الجنرال عم يسأل أيّ مفرق بدو ياخد رفيق الحريري؟!”.

مشاهد متباينة ترتسم في البال بعد ثمانية عشر عاماً على رحيل رفيق الحريري. ولا تزال إشكالية الرجل قائمة: هل كان جزءاً من مدرسة الاستقواء بقوّة الخارج، لاقتطاع سلطة فئوية شخصية في الداخل، على حساب السيادة والتوازن؟

كان الشابّ المثكول يشير بكلامه إلى لقاء إعلامي للعماد ميشال عون في باريس قبل الجريمة بأيّام. سئل خلاله عن موقف الحريري من التطوّرات. فأجاب أنّه يراه الآن كمن يدور حول ساحة الإتوال الشهيرة في قلب باريس، التي تتفرّع منها اثنتا عشرة جادّة، وهو ينتظر ليقرّر أيّ اتّجاه منها يأخذ.

سكتنا ولم نُجب. خرجت منّا تمتمات خجولة من نوع “الله يصبّركن” و”الله يرحمو”… ودخلنا قاعة اللقاء…

مشهد أوّل ما يزال يحضرني ويسكنني ويذكّرني بإشكالية: هل أخطأنا بحقّ الرجل حتّى ظلمناه؟ سؤال ليس بهذه البساطة بكلّ تأكيد.

                                *************************************

مشهد ثانٍ:

قبل 14 شباط 2005 ببضعة أشهر. لمناسبة عيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني 2004، عقد ميشال عون مؤتمراً في العاصمة الفرنسية. كان قد صدر القرار الأممي 1559 مطلع أيلول، ومدّد الاحتلال السوري ولاية إميل لحّود بشكل متزامن. وتطوّرت تداعيات الحدثين على الساحة اللبنانية. أعلن الجنرال يومذاك نبوءته ومبادرته: لا تكابروا. الجيش السوري سيخرج. تعالوا لنتحاور كلّنا، في بيروت ومع دمشق، لإعادة تكوين البلد.

بعدئذٍ قرّر عون إيفاد ممثّلين عنه لتسليم نصّ مبادرته إلى كلّ المعنيّين، مع دعوة إلى البحث في شكل وسبل مناقشتها. اتّصل مسؤولو التيار في بيروت بمكتب الرئيس الحريري. تحدّد موعد. ذهب اثنان من أركان التيار للقاء الرجل الذي كان قبل فترة قد أعلن خروجه من الحكم والحكومة، واستيداعه الله وطنه الحبيب. سلّماه ورقة فيها نصّ مقتضَب لكن كافٍ. فالفكرة والأزمة والإشكالية ما بين بيروت ودمشق كانت كلّها في أذهان الجميع، ومنذ أعوام، ولا لزوم لمطوّلات.

قرأ الحريري الورقة. شكر الموفدَين. تحدّث في عموميّات. بادلاه مثلها. انتهى اللقاء سريعاً قبل أن يختم بعبارة مفتاحيّة. قال لضيفَيه: “سلّمولي على الجنرال. وقولولوا الفرق بيني وبينو إنو هوّي همّو لبنان. أنا همّي لبنان وسوريا”.

هل غامر الرجل، فأخطأ، فظلم نفسه وظلمنا معه؟

مشهدٌ ثانٍ يزيد من تراجيديا الإشكاليّة.

قاطعت القوى السياديّة مسرحيّة دمشق في بيروت. قيل إنّ الغرض منها كان إعادة تركيز حكم النظام البعثيّ في لبنان، بعد اهتزاز 6 أيّار وسقوط حكومة عمر كرامي وانهيار الليرة

مشهد ثالث:

قبل ذلك اللقاء بأشهر أخرى قليلة. في أربعة كتب فرنسية موثّقة بالوقائع والمستندات: “الزمن الرئاسي”، أي مذكّرات جاك شيراك، و”شيراك العرب” لمؤلّفَيه إريك آيشيمان وكريستيان بولتانسكي، و”الارتداد الكبير بيروت – بغداد” لكاتبه ريشارد لابيفيير، و”ملفّات المخابرات المركزية الأميركية عن فرنسا 1981-2010″ للمؤلّف فنسان نوزيي. في أربعة مراجع وعشرات الصفحات والوقائع والوثائق، ثمّة حقيقة مثبتة: رفيق الحريري كان أحد صانعي القرار 1559. النسخة الأخيرة من مشروع القرار، أُقرّت على يخته في سردينيا، في 19 و20 آب 2004، بحضور دماغَيْ (شيربا) جورج بوش وجاك شيراك، سوزان رايس وغوردو مونتانيو، كما تقول الوثائق. لماذا؟ “لانتزاع لبنان من شدقَيْ الأسد”، يروي أحدهم. وقيل يومذاك إنّ أحد لبنانيّي باريس سرّب الخبر إلى دمشق، قبل أسبوع من اللقاء الأخير بين الحريري وبشار الأسد.

 

                                ********************************

 

مشهد رابع:

قبلذاك بدزينة كاملة من الأعوام. يروي جورج سعادة في مذكّراته “قصّتي مع الطائف” (الصفحات 244 إلى 247) محاولة القوى المسيحية تأجيل موعد الانتخابات النيابية المبكرة التي فرضها الاحتلال السوري سنة 1992. يعرض الرئيس السابق لحزب الكتائب وقائع أيّام 22 – 24 آب من ذلك العام، وكيف انتزع موافقة بكركي على طلب منها لتأجيل الانتخابات. نقل الخبر إلى إلياس الهراوي، فوجد رفيق الحريري حاضراً وهو من يجيب: “لا يكفي. نريد موافقة عون وإدّه وجعجع”.

عاد سعادة إلى بكركي وأقنع البطريرك صفير بمهاتفة الثلاثة والحصول على موافقتهم. ثمّ عاد إلى الهراوي، فوجد الحريري أيضاً حاضراً وهو من يجيب: “لا يكفي. نريد طلباً خطّياً من البطريرك”. على الرغم من استفظاع الطلب، عاد سعادة إلى بكركي وحصل على كتاب ممهور بتوقيع صفير. ومرّة ثالثة عاد إلى الهراوي، الذي رمى الموضوع عند السوريين: “إذهب وراجع أبا جمال”.

ذهب سعادة في اليوم التالي إلى دمشق ليلتقي عبد الحليم خدّام، ويطرح عليه مآل التفاوض. فكان جواب الرجل، الحالم ذات يوم بتمزيق بطاقة الهويّة اللبنانية، بأنّه متفاجئ من كلّ ما سمع ويسمع. فمساء اليوم السابق كان رفيق الحريري عنده على العشاء. وكان توافقٌ على أنّ الانتخابات ستُجرى بإجماع لبناني ودولي، وأنّ كلّ مسعى عكس ذلك وهمٌ وحسب.

يومذاك قاطعت القوى السياديّة مسرحيّة دمشق في بيروت. قيل إنّ الغرض منها كان إعادة تركيز حكم النظام البعثيّ في لبنان، بعد اهتزاز 6 أيّار وسقوط حكومة عمر كرامي وانهيار الليرة. وقيل إنّ سلطة دمشق يومئذٍ قرّرت دفع ثمن لذلك، عبر شراكة أوسع في تركيبة “الطائف السوري”، مع الرياض وواشنطن. وهو ما أدخل الحريري إلى تركيبة سلطتها في القُطْر المقطور.

وقيل في المقابل إنّها كانت بداية مسار الانتقال من طائف سوريا إلى طائف لبنان. مسارٌ استغرق 13 عاماً. رقم نحس لعمر كرامي الذي ظُلم في حكومتَيْه سنتَيْ 1991 – 1992 وسنتَيْ 2004 – 2005. وهو رقم شؤم أيضاً لرفيق الحريري، الذي جاء إلى حكومة لبنان وحكمه بعد الانتخابات التي تلت سقوط كرامي الأوّل سنة 1992. ورحل عن لبنان بالدم، قبل الانتخابات التي تلت سقوط حكومة كرامي الثانية سنة 2005.

لبنان، في زمن رفيق الحريري، كان أفضل، وأنّ الحياة فيه كانت أحلى. قناعة فيها الكثير من مرارة الأسف على ما كان، وبعض الأمل في ما سيكون

مشهد أخير:

صباح 30 تموز 1997، كنتُ على موعد مع نهاد المشنوق، في مكتبه في مقرّ رئاسة الحكومة السابق في الصنائع. فجأة يفتح الباب ويدخل رفيق الحريري. كان وجهه يضجّ ببسمة تستبطن فرحة. لم يتأخّر في كشف سببهما. اتّصلت به وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت فجر بيروت، ليل واشنطن، وأبلغته قرار إدارتها رفع الحظر الأميركي عن الرحلات من وإلى العاصمة اللبنانية. رمى البشرى باعتزاز واضح، قبل أن يطلب من كبير مساعديه العناية بالموضوع بما يلزم ويستحقّ.

لم أفهم: ماذا يستحقّ؟

فجاءت التفسيرات: بعد باريس والرياض والقاهرة والفاتيكان، هذه عودة أخرى من عودات لبنان الضرورية إلى القواعد التاريخية لحضوره الدبلوماسي. وبالتالي إنّها نقطة تراكمية إضافية وأساسية، في مشروع الحلم الكبير لاستعادة لبنان دولةً سيّدةً لا جرماً سابحاً في فلك دولة أخرى.

قلت له: “يبقى التوازن الميثاقي الداخلي”. أجاب: “يحقّقه قانون انتخاب”. قبل أسابيع نزل مليون مسيحي لاستقبال البابا. هذه أكبر تظاهرة في تاريخ لبنان. يكفي قانون انتخاب يسمح لهذه الكتلة بتجسيد إرادتها، ليتحقّق التوازن”.

أردفت: “هنا مكمن الخوف المسيحي”.

ردّ بسرعة تلقائية: “لا خوف على المسيحيين ما دام لديهم بكركي. مؤسّسة عمرها قرون. لا أحد في لبنان وحوله يملك مؤسّسة كهذه”.

                                        ****************************

مشاهد متباينة ترتسم في البال بعد ثمانية عشر عاماً على رحيل رفيق الحريري. ولا تزال إشكالية الرجل قائمة: هل كان جزءاً من مدرسة الاستقواء بقوّة الخارج، لاقتطاع سلطة فئوية شخصية في الداخل، على حساب السيادة والتوازن؟

هل كان مشروع حفرٍ لجبل الوصاية والاحتلال، بإبرة من بعض إعمار وازدهار، وبعض دبلوماسية وحضور دوليّ مذهل، وإن مع بعض الإطعام لأشداق الوصيّ المحتلّ الشرهة، كي تسكت، لكنّها التهمته؟

هل كان جزءاً من مشروع أكبر منه ومن لبنان؟ مشروع انطلق من فكرة سلام “ربيع الألفين”، قبل أن تُسقطه حرب 11 أيلول 2001؟ سقوطٌ تزامن مع سقوط برجَي نيويورك، فتحوّل الرجل ومشروعه ومَن خلفه متراساً متقدّماً في مقاربة واشنطن لاحتوائها المزدوج للعالم الإسلامي، عبر تفجيره على تقاطعين: مذهبي وعرقي. فكان العراق البداية. وكانت نهاية ياسر عرفات وصدّام حسين والحريري، وتقدَّم هلال إيران الشيعية الفارسية، في قلب البدر السنّيّ العربي، فارتاحت واشنطن فوق تناقضات صراع ألفيّ بين وليّ الأمر والوليّ الفقيه؟!

أسئلة كثيرة حتّى التناقض، ولا يقين في أيّ جواب، باستثناء قناعتين شخصيّتين:

– أولاً، كلّنا أخطأنا. ولم نعترف. بل تعاملنا مع إدراكنا لأخطائنا بالهروب نحو تطوير مواقفنا من موقف إلى آخر، ومع تبرير تطوّرنا بالمكابرة والإنكار. ولم نعترف. ولم نغفر. ولم نستغفر.

– القناعة الثانية، خصوصاً اليوم بالذات، بأنّ لبنان، في زمن رفيق الحريري، كان أفضل، وأنّ الحياة فيه كانت أحلى. قناعة فيها الكثير من مرارة الأسف على ما كان، وبعض الأمل في ما سيكون.

مواضيع ذات صلة

ذكرى رجل أم ذكرى بلد؟

فجأة تنتبه أنّك تكتب عن رفيق الحريري بصيغة الحاضر. ثمّ تفكّر أنّ الأمر لم يحصل سهواً، وأنّ الكتابة عن رفيق الحريري هي عملية معاندة بين…

اغتيال رفيق الحريري: زلزال المنطقة المستمرّ

تمرّ الذكرى الـ18 لاغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005، ليتبيّن مع مرور الوقت أمران: – أوّلهما أنّ تفجير موكب رفيق الحريري ورفاقه،…

مسرّة لـ”أساس”: مار مخايل برنامج لشيطنة الحريري..

“هو رجل الاستقلال الثاني”، بهذه الجملة يُعرِّف المرجع الدستوري الدكتور أنطوان مسرّة الرئيس الشهيد رفيق الحريري. لا ينظر الدكتور مسرّة إلى تاريخ 14 شباط كذكرى…

لم يكن شاعراً.. لكن صنع مستقبلاً من العاطفة

في سنوات غياب رفيق الحريري عن المشهد السياسي اللبناني، لم يختف أثر لمسته الإيجابية في الحياة اللبنانية. فظل حاضراً رمزاً لاستقلال لبنان وإرادته الحرة وتفوقه…