مع انتهاء اللقاء الخماسيّ الباريسي في بداية الأسبوع الحالي إلى ما انتهى إليه وكما كان متوقّعاً، تمضي سحابة الهلوسة التي أحاطت بالاستحقاق الرئاسي ويتوقّف المنجّمون عن رمي التوقّعات يمنةً ويسرةً وكشف طالع المرشّحين في السرّ والعلن، ويعود اللبنانيون بكلّ واقعية إلى مواجهة حقيقة ما هي عليه حياتهم السياسية.
الداخل ودوّامته
لقد تقاطعت واقعية الخارج والدروس المستفادة من تجاربه المريرة مع ساسة لبنان، مع توهّم النجاح الذي راود بعض فرقاء الداخل. فالتباين العميق والمعلن بين الكتل السياسية في النظرة إلى لبنان الدولة كان حاضراً بين المتحاورين في الخارج قبل لقاء باريس، بل منذ ما قبل الشغور الرئاسي في محاولة لاستدراك الفراغ. وإذا كانت المحاولات الداخلية لإيجاد قواسم مشتركة، التي عبّرت عنها سلسلة من اللقاءات الناشطة، تصدّرتها كتلة اللقاء الديمقراطي، فإنّ أقصى ما خرجت به الكتلة هو تسجيل موقف للتاريخ بأنّها استنفدت كلّ ما لديها من إمكانات قبل خراب البصرة. وما الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس كتلة اللقاء الديمقراطي النائب تيمور جنبلاط مع عدد من نواب اللقاء للنائب ميشال معوّض “المرشّح الوحيد بإرادته” لرئاسة الجمهورية، سوى إعلان العودة إلى المربّع الأول والتوقّف عن تقديم معوّض قرباناً على مذبح تسويات لن تفضي إلى نتيجة.
وإذا كان من حيّزٍ لمناقشة العناوين التي تُطرح في الداخل درءاً للدخول في حلقة هلوسة محلّية، فإنّ الدعوة إلى لبننة الاستحقاق تستدعي التساؤل: كيف يمكن لبننة الاستحقاق مع انعدام أيّ توافق داخلي، بل مع وجود حالة افتراق في النظر إلى مستقبل لبنان ودوره وتراتبيّة الطوائف اللبنانية في المواطنة والمشاركة السياسية، إضافة إلى الاختلاف العميق على مفهوم السيادة الوطنية واحترام الحدود الدنيا لدور الدستور والقانون والحوكمة الرشيدة في الحياة الوطنية؟
من المنطقي جدّاً أن تستخدم طهران أوراقها، ومنها الساحة اللبنانية، في ضوء الصراع الدولي المفتوح
إنّ الإجابة على هذا التساؤل واجبة قبل الشروع في بحث مسألة تشكيل السلطة والآليّات التي يجب أن تُعتمَد لتحقيق الشفافية والمحاسبة في استخدام المال العامّ وإدارة مرافق الدولة للخروج من الأزمة الاقتصادية.
التحرّر من الزبائنيّة
بالتوازي مع البحث المستحيل عن لبننة الاستحقاق الرئاسي بين متحاورين منقسمين حتى النخاع، يظهر تباينٌ آخر في اعتبار الاستحقاق الرئاسي المدخل الملزِم لحلّ الأزمات كافّة. ففيما تعتبر الكتل السياسية الداعية إلى البحث عن مرشّح توافقي حقيقي يكون بدايةً لتوسيع دائرة التوافقات على عدد من الأولويّات الوطنية، ومنها تطبيق الدستور وتحقيق الإصلاحات، يبقى التمسّك بالاستحقاق الرئاسي بالنسبة إلى الكتل الأخرى التي يقودها حزب الله التزاماً لفظياً إذا لم يؤدِّ إلى تكرار تجربة الرئيس السابق ميشال عون. وحيال هذا التباين يقف قسم كبير من المواطنين في موقع جديد خارج الاصطفافين.
أجل لقد حرّرت الأزمة اللبنانية بتشعّباتها هؤلاء من زبائنيّة سياسية مزمنة لم تقتصر آثارها على الولاء السياسي القسري، بل تجاوزته إلى ارتهان اقتصادي ومعيشي كامل لتلك القوى السياسية. من نجح منهم، وهم الغالبية، في اكتساب وسائل العيش وتلمّس الاستقرار الاجتماعي بمعزل عن الزبائنية أضحى في موقع سياسي جديد. وهؤلاء المواطنون الذين أصبحوا خارج القيود هم في حالة طلاق مع الدولة التي تريد الكتل السياسية ترميمها. ولذلك لم يعد الاستحقاق الرئاسي، الذي يُفضي إلى ملء الشغور، ويمهّد لتفجير خلافات جديدة وعودة الوضع إلى ما كان عليه، يعني شيئاً لهؤلاء اللبنانيين.
قد يكون من المفيد قراءة الرسائل التي أطلقها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته لبنان وسوريا في الأسبوع الثالث من الشهر المنصرم
المتاهة الدوليّة
إنّ البحث عن لبننة الاستحقاق الرئاسي دونه استحالة الإجابة عن دور الخارج في لبنان وإمكانية إخراج هذا الخارج، ولو نسبيّاً، من ميزان القوى السياسي المحلّي، وهذا ما يبدو مستحيلاً في ظلّ الإطباق الإيراني على لبنان وتشابك الصراع الدولي في أكثر من منطقة ساخنة من بحر الصين حتى شواطئ المحيط الأطلسي مروراً بالشرق الأوسط الكبير ودول الساحل الإفريقي، وفي ظلّ جنوح العلاقات الدولية نحو إنشاء تحالفات ومحاور جديدة.
قد يكون من المفيد في هذا الإطار قراءة الرسائل التي أطلقها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته لبنان وسوريا في الأسبوع الثالث من الشهر المنصرم، وأكّد فيها ثوابت طهران بعد اجتماعات استعراض القوّة التي عقدها مع حلفائه، ثمّ كرّرها نائبه علي باقري كني في أثناء زيارته بيروت أول من أمس تأكيداً لعلاقة الاستتباع بالقوّة.
من المنطقي جدّاً أن تستخدم طهران أوراقها، ومنها الساحة اللبنانية، في ضوء الصراع الدولي المفتوح. ولكنّ النهم اللبناني إلى استدعاء الخارج ليس وليد الحاجة إلى تعزيز موقع لبنان، بل هو سِمة أساسيّة للبداوة السياسية اللبنانية التي تقوم على العصبيّة والغلبة.
إقرأ أيضاً: عن كلام الزلزال وزيارة الأسد…
أمّا التدافع الوزاري اللبناني لتشكيل الوفد الرسمي لزيارة قصر المهاجرين في سوريا، فلا يُقرأ من قبيل زيادة فعّالية مجموعات الجيش اللبناني والصليب الأحمر والدفاع المدني وفوج الإطفاء التي تقوم بواجبها الإنساني تجاه الشعب السوري الشقيق. وقد أصابت الحكومة في موقفها من دون شكّ، بقدر ما يُقرأ من قبيل استثمار الزلزال المدمّر للاستلقاء والاستقواء، بحيث يصعب تحديد الهدف من الوفد الكبير: هل هو إنقاذ الأشقّاء السوريين أم إنقاذ الرئيس بشار الأسد أم استجداء نقطة قوّة في الاستحقاق الرئاسي؟
* مدير المنتدى الإقليميّ للاستشارات والدراسات