عظيمٌ جدّاً هول مأساة الزلزال بين تركيا وسوريا. هي عظمة الموت في الأهوال.
لكن حتى الموت لا يقدر على إخفاء الحقائق. بل إنّ بعضه يُظهرها أكثر ويُبرزها أقسى.
فبين بعض مكبوتات منصّات التواصل الاجتماعي المتفجّرة حيال الكارثة، وبين بعض خفايا الوفد الوزاري اللبناني في ضيافة بشّار الأسد، ثمّة ظواهر مؤلمة جدّاً يجب أن تُقال، بالإذن من كلّ الضحايا. ولأجل من سبقهم ومن ينتظر…
************************************
حتى الموت طمراً وجماعيّاً تحت الركام، لم يُسكت الدفين في النفوس. حسابات منصّات التواصل الإلكترونية فضحت الكثير من تشوّهات بشر منطقة كاملة وأمراضها. ليس صحيحاً أنّ التضامن كان بالإجماع. وليس دقيقاً أنّ الموت حصداً يجمع ويضمّ.
ففي التراشق حول زلزال سوريا، كان الكلام المذهبي عن المأساة كثيراً غزيراً. إشارات خجولة أحياناً أو سافرة حيناً إلى لون مذهبي واحد لمنطقة الكارثة، بين الشمال السوري وبعض جبل الساحل، مع استذكار وتذكير مذهبيَّين باللون نفسه لجغرافيا الحرائق الفظيعة التي ضربت المنطقة نفسها قبل عامين ونيّف. ومع تلك الإشارات، تكثر الإسقاطات من نوع الاستدلال إلى “عقاب إلهيّ” مزعوم أو “جزاء سماويّ” موهوم، وأكثر بكثير ممّا يلامس المحظور ويتخطّى التشفّي.
حتى الموت لا يقدر على إخفاء الحقائق. بل إنّ بعضه يُظهرها أكثر ويُبرزها أقسى
السلطان العثماني المعاصر
في المقابل، وعلى جبهة التراشق حيال المأساة التركية، إشارات من الجهة الأخرى إلى دور “السلطان العثماني المعاصر” في حروب العقد الأخير، من سوريا إلى ليبيا وما بينهما، وتلميحات إلى ثأر السماء من الحاكم بالمحكومين.
حتى ما حاول لبوس السياسيّ والسياسة. ولم يشذّ عن قاعدة الاستعانة بكوارث الطبيعة لاستصدار أحكام إلهية جاهزة ضدّ مواقف أنظمة وحكّام، مع استعادات لتاريخ دزينة من الأعوام، من كلام يستذكر البراميل المتفجّرة ومفاعيلها في تصدّع بنى تحتية وتداعٍ عمراني كامل، وانتهاء بالاستقواء بفوالق الجيولوجيا ضدّ المساعي الأخيرة لتقارب الفالق الإردوغانيّ – الأسديّ وتموضعات المتحاربين حيالها.
باختصار، الموت هنا يتحوّل ينبوع وحي ومصدر استلهام للغة الموت أكثر.
بيروت تواسي حاكم دمشق
بيروت انضمّت إلى المفارقة نفسها، وإن بشكل مخفّف أو مخفيّ. ذهب وفد وزاري إلى حاكم دمشق للمواساة والدعم والتضامن. لكنّه تشكّل بلونين مذهبيَّين اثنين لا غير، بعدما عجز رئيس حكومته عن ضمّ وزير واحد إليه من لون غائب. قيل إنّه حاول واتّصل وتمنّى وكاد يرجو ويتوسّل مع وزراء بلا نتيجة. فقرّر التعويض بضمّ موظّفَين اثنين، أمينين عامّين للخارجية والإغاثة، لتلوين اللوحة المشوّهة.
لا إدانة في كلّ هذا العرض، بل وقائع وتوصيف دقيق لواقع.
واقع يفتح النافذة على منطقة كاملة قاتمة، تمتدّ على ملايين الكيلومترات المربّعة، من حدود الهند والصين، حتى شواطئ الصحراء المغربية. يعيش فيها مئات الملايين، تحت رحمة وسطوة وقسوة، بل أحياناً حتى تحت جزمة إله من آلهتها المتعدّدة:
فهناك إله أوّل عنوانه السماء. بل السماوات. لأنّه إله بآلهة كثر. وهو في كلّ صيغه يظلّ مشروع حكم أرضيّ دنيويّ ونظام سلطة وتسلّط ونفوذ وهيمنة وقتل وفرض. أفيون سحريّ جماعي. “كلمة” تخدّر ملايين. الدين في هذه المنطقة، بكلّ آلهته وأنبيائه وأوليائه، ليس شريعة لعلاقة إيمانية بين إنسان وفوق. بل هو ذريعة لعلاقة سلطوية بين نصف إله حاكم متسلّط أو شبهه، وبين كلّ الناس هنا تحت.
الإسلام السياسي، بكلّ مذهبيّاته، هو صورة عن هذا الواقع. من “إخوان” أو”وليّ أمر” أو”وليّ فقيه”، وصولاً إلى أيديولوجيّات “بسودو-قوميّة” تحوّلت أقنعة مذهبية ساقطة، من عروبة وبعث وما بينهما.
اليهودية السياسية، عبر صهيونيّتها، أسبق وأعتى وأظلم.
كانت المسيحية السياسية، على هزالها، خارج هذا السباق حتى فترة ماضية، عن عجز أو عن اختلاف طبيعة، قبل أن يخرج من تشوّهاتها هي الأخرى، فصيل من فرّيسيّي “حقوق المسيحيّين” ودجّالي الهيكل، يسعى لاهثاً إلى الالتحاق بركب حروب الأفيون المشرقية، من أجل كرسي فرديّ.
ثمّ هناك إله ثانٍ عنوانه القوّة. هي القوّة المادّية المجرّدة، بمدفع وبندقية ومسدّس وسيف وخنجر. إنّه إله يبني أنظمة حكم كاملة شاملة شموليّة، برؤوس فوق النجوم. عسكريتاريّات نمطية بتسميات مختلفة. منها المجنون السلطويّ، على شاكلة “فاتح سبتمبر”، الذي أغلق كلّ الأشهر والأيام على بلاده وناسه نيّفاً وأربعين عاماً. ومنها من يأتي من الأقلّيات ليجمّل صورتها ويموّه ديكتاتوريّتها. أو بالعكس من يأتي إلى العسكر من الأكثرية، ليستر عورتها بنجمة أو يقنّع صلعتها بقبّعة وتحيّة. وطبعاً طبعاً، هناك بين أنظمة القوّة الوصوليون وأهل البطالة من الفقراء ومحرومي المجتمع وبؤساء الأحزمة ومقصيّي الأطراف.
سوار الذهب النموذج الفريد
لكن يظلّ بينها النموذج الفريد لسوار الذهب، النسخة السودانية من فؤاد شهاب الأمير بشرفه، الذي جاء ليغيّر ويبني بصدق وزهد، قبل أن يذهب بصمته يائساً من ضجيج ناسه والتفاهة.
إقرأ أيضاً: سوريا… من الزلزال السياسيّ إلى الزلزال الطبيعيّ
وبين الاثنين، بين آلهة السماوات وآلهة الثكنات، في هذه المنطقة مجال لديانة أخرى لا بدّ أن تولد جنينيّاً. هي ديانة الذين لا دين سلطويّاً لهم. وصورتهم الأبهى اليوم مكوّنات ثلاثة: امرأة مناضلة لحرّيّتها، ومثقّف مضطهَد لفكره، ومختلف مهمّش أيّاً كان اختلافه. أمل هؤلاء، الذي هو أمل منطقتهم وشعوبها كافّة، أن يتطوّر الدينيون يوماً فيسيروا صوبهم، بدل أن يسيّروهم صوب خوائهم، أو أن يخرج عسكري متنوّر، فيحميهم ويجسّد مقولة “المجنون حتى ينتصر”، لكن بهم، فينتصروا ويجعلوا من هذا الخراب زمناً معاصراً، وإلّا فسنظلّ منكوبين نكبة بعد نكسة بعد دورات منهما، وستظلّ أقلّ نكباتنا من الطبيعة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@