في طرابلس.. لكلّ “بِركة” قصّة وتاريخ

مدة القراءة 7 د

عندما تتجوّل في طرابلس يُلفت نظرك وجودُ عشرات “البِرَك” المنتشرة في المدينة، منها الخاصّة كبرك الحمّامات والمساجد، ومنها العامّة. لكنّ أقدمها وأشهرها بركة “الملاحة” التي كانت تُملأ في الأعياد بأنواع مختلفة من العصائر ليشرب منها الناس مجّاناً. وفي شمال المدينة تقع “بركة البدّاوي” المعلَم السياحي والتراثي الذي يحمل ذكريات جميلة من زمن عزّ نهوض المنطقة. أمّا بقيّة البرك فهي مستحدَثة. ولهذه البرك حكايا كثيرة يرويها مؤرّخون وبعض الكبار ممّن عايشوا قصص “البرك” التاريخية.

 

بركة البدّاوي

اشتهرت البدّاوي منذ مئات السنين ببركتها التي كان يعيش فيها أكثر من ستة آلاف سمكة تتغذّى من مياه نبع يصبّ فيها ثمّ يسقي نحو 500 فدّان من بساتين الليمون المحيطة بها. ولهذه البركة أسطورة غريبة يتناقلها الناس، وهي أنّ السمك المقدّس الذي كان موجوداً فيها، ممنوع أكله، وأنّ من كان يصطاده يُصاب بالمرض أو بالتسمّم إذا أكله.

يروي السكّان لـ”أساس” أنّ إحدى الفرق العسكرية الأسترالية التي خيّمت في منطقة البدّاوي أيّام الحرب العالمية الثانية، اصطاد بعض أفرادها عدداً من هذه الأسماك وبعدما أكلوها أُصيبوا جميعاً بعوارض التسمّم والهستيريا. هذه الأساطير، التي كانت تُروى عن السمك المقدّس، حفظتها طوال مئات السنين من تعدّي الإنسان عليها، فكانت البركة مزاراً لا يقتصر على الطرابلسيين وحسب، بل كان يفد إليها الزوّار من كلّ المناطق اللبنانية.

في مطلع السبعينيات، حفرت إدارة مصفاة طرابلس المجاورة للبركة سبع آبار بالقرب منها لمدّ المصفاة بالمياه، إضافة إلى عدد من الآبار الخاصّة، الأمر الذي أثّر على المياه المتدفّقة على البركة والتي ما لبثت أن انكفأت نحو الآبار التي حفرتها المصفاة، فنضبت المياه في البركة، ومات جميع السمك فيها وانتهت بذلك أسطورة السمك المقدّس.

يتذكّر بعض المتقدّمين في السنّ من أبناء المنطقة نشأة البركة، ومنهم من عايش استخداماتها التي يبدو جليّاً أنّها تركت أثراً إيجابياً وحنيناً لأيام جميلة لم تفارق ذاكرتهم. فالبركة فسحة مُشادة باستدارة من حجر ناعم، وبارتفاع يقرب من متر ونصف متر، وفي جدران البركة فتحات تصل إليها الماء بنسب قليلة.

كان زوّار الفيحاء يتّجهون إلى البركة للاستراحة بعد إنهاء الأعمال التي جاؤوا من أجلها إلى طرابلس. تقول الحاجّة منى التي تبلغ من العمر 85 عاماً إنّ فنّانين مصريين كباراً مثل السيّدة أمّ كلثوم ومحمد عبد المطلب ومحمد عبد الوهاب زاروا البركة عندما كانوا يأتون إلى المدينة لتقديم حفلات فنّية، واستراحوا على جوانبها.

 

تدمري: لا إحصاء محدّداً لعددها

يقول المهندس الدكتور خالد عمر تدمري رئيس لجنة الآثار والتراث والسياحة في بلديّة طرابلس لـ”أساس” إنّه “لا يوجد إحصاء محدّد لعدد البرك في المدينة، فليس كلّ حوض يُملأ بالماء يسمّى بركة، وكلّ بركة لها وظيفة محدّدة. أمّا بالنسبة إلى بركة البدّاوي المعروفة باسم بركة “الأسماك المقدّسة”، فيرجَّح أنّ وجودها يعود إلى حقبات تاريخية قبل عهد المماليك، وهناك من يقول إنّها تعود إلى فترة الفينيقيّين، والعمارة الموجودة حالياً مملوكيّة وعثمانية، وهناك من يرجّح أن تعود إلى أيام الصليبيين”.

يتابع تدمري كلامه: “ليست مياه بركة البداوي للشرب لأنّها موصولة بمياه البحر عبر قناة، بل هي موطن للأسماك التي كانت تعيش داخل حوضها. اعتادت الناس هذا المكان الذي شكّل فسحة للتنزّه. في نهاية العصر العثماني أُضيف إلى هذه البركة مراحيض ومسجد. ومن المستغرب أنّ هذه الأسماك لا تخرج من الحوض وكانت لدى الناس قناعة بأنّها مقدّسة ولا يجوز أكلها، ومن يأكلها يتضرّر. كانوا يزورونها للتنزّه ويقومون بإطعام الأسماك إلى أن جاء الإنكليز في أثناء الحرب العالمية الأولى وكان ضمن عديدهم فرقة من الهنود خيّمت قرب البركة وأفرغتها من الأسماك بعدما قامت باصطيادها وأكلها”.

بركة الملاحة

كانت سُبل المياه بمدينة طرابلس كثيرة، ويمتدّ وجودها منذ أيام المماليك حتى زمن العثمانيين، وكان الهدف منها توفير مياه الشفة للمارّة من باب تقديم صدقة جارية أو عمل خير. بركة الملاحة هي واحدة من هذه السُبل، وارتبط بها عدد من القصص التاريخية بحسب ما يرويه الدكتور تدمري:

 

القصّة الأولى:

كان يملؤها أهل الخير في أعياد المولد النبوي والمناسبات الدينية بعصائر الليموناضة والتوت والسوس وغيرها احتفاء بالمناسبة وتُقدّم للناس مجاناً.

من جهته، يروي أستاذ التاريخ في كليّة الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية وصاحب العديد من الكتب الدكتور ماجد درويش تاريخ المدينة لـ”أساس”، فيقول: “هي من العصر المملوكي، فحين بُنيت طرابلس المملوكية جُرّت إليها المياه من نبع رشعين في سواقي خاصة بماء الشرب كانت تمرّ بجداول موازية لمجرى النهر، وعند منطقة تحت السباط، الواقعة تحت قلعة طرابلس، كانت المياه تُوزّع على أحياء طرابلس، حيث كانت تصل إلى قوائم الماء التي تسمح للمياه بالوصول إلى البيوت المرتفعة، وفي الوقت نفسه كانت تُقام سبل المياه لتمكين الناس من الشرب في الطرقات”.

ويتابع: “من ذكريات طرابلس أيّام الخير والبركة أنّه في ذكرى المولد النبوي الشريف كانت البركة تُملأ بعصير الليموناضة وتبقى الناس تشرب منها طول النهار من دون مقابل”.

ويضيف: “ومن جملة السبل التي أُقيمت بركة الملاحة، الواقعة بين سوق حراج وسوق البازركان، وقد أدركتها في صغري عندما كانت تنفجر مياهاً عذبة، ثمّ أثناء أحداث طرابلس المتتابعة أصابها بعض الضرر، وكانت مصنوعة من الحجر البحصاصيّ، فتبرّع بعض التجار وكسوها بالرخام الأبيض. اليوم جفّت مياهها، وانقطعت بركاتها، وتحوّلت إلى معرض لبيع الأحذية والثياب”.

 

القصّة الثانية:

ارتبطت هذه البركة بحادثة تاريخية وقعت عندما ثار عدد من الطرابلسيين على الحكم العثماني، فما كان من أحد الباشوات العثمانيين إلا أن أعمل فيهم قتلاً ووضع رؤوسهم على البركة كي يكونوا عبرة للناس. حينذاك، اغتاظ أبناء المدينة من الذي حصل وقاموا بنقل هذه الرؤوس إلى مكان قريب من البركة حيث قاموا بدفنهم وأنشأوا مدرسة عُرفت باسم “مدرسة الشهداء”، بحسب الدكتور تدمري.

برك أخرى

هناك العديد من البرك الأخرى العامّة، ومنها بركة الملاحة، وتلك التي كانت موجودة في خان الخيّاطين ثمّ أُزيلت، وبركة خان المصريين، وبركة لا تزال في منطقة باب الرمل بين جامع المعلّق وقهوة موسى وصارت سبيل مياه كغيرها من البرك المنتشرة في أنحاء المدينة. أمّا البرك التي نجدها في باحات المساجد، مثل جامع المنصوري الكبير، جامع البرطاسي، جامع التوبة، وجامع العطّار، فكانت للوضوء والشرب.

ما تزال برك الحمّامات للاستعمال الخاص، لكنّ بعضها دُمّر والبعض الآخر ما يزال موجوداً. هناك حمّام “النزهة” الذي دُمّر بعدما جرفه طوفان نهر أبو علي سنة 1955، وحمّام “القاضي” (القرمي) الذي لا يُعرف تاريخ إزالته، وحمّام “العطار”. وهناك حمّام “الحاجب” الذي لا يزال بعضٌ منه قائماً على الضفة الشرقية لنهر أبو علي. وقد بناه أسندمر الكرجي بين سنتَيْ 1322 و1331م، بحسب مؤرّخ طرابلس الدكتور عمر تدمري. ولا تزال بقايا لحمّام “الدوادار” المهجور الذي بُني سنة 1700م.

إقرأ أيضاً: مستوطنة إفريقيّة في طرابلس

أمّا الحمّامات الباقية فهي:

– حمّام “عزّ الدين” الذي جرى ترميمه وأصبح موقعاً سياحياً. وقد أُسّس على يد الأمير نائب السلطنة عزّ الدين أيبك الموصلي المنصوري بين سنتَيْ 694 و698 هجرية (1294-1298م)، بحسب المؤرّخ الطرابلسي عمر تدمري.

– الحمّام “الجديد” المرمّم حديثاً.

– حمّام “النوري” الأفخم، لكن الأكثر تعرّضاً للإهمال والاهتراء والتآكل، وبناه الأمير سنجر عبد الله النوري سنة 1310.

– حمّام “العبد”، وهو الوحيد الذي لا يزال يعمل بكلّ طاقته.

[PHOTO]

 

مواضيع ذات صلة

هل يستبدِل برّي حليفه فرنجيّة بأزعور؟

يدور الاستحقاق الرئاسي في حلقة مُفرغة، أحد أبرز عناصر كَسرِها التوصّل داخلياً إلى تسوية تَمنع الثنائي الشيعي من أن يكون في جلسة التاسع من كانون…

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…