“بيت بمنازل كثيرة”.. كيف يتّفق اللبنانيّون على اختلافهم؟

مدة القراءة 8 د

مهما اختلف اللبنانيون، لكنّهم في النهاية متّفقون على أنّهم مختلفون فيما بينهم على كثير من الأمور، وأخطرها ما قد يبدو أنّه أدناها شأناً. الخلاف على المسائل الوطنية الكبرى، مثل سلاح حزب الله، والاستراتيجية الدفاعية، والحياد الدولي، وإلغاء الطائفية السياسية في النظام الحالي، قد يكون أهونها، وأقلّها إشكاليّة. بل من الممكن التوافق عليها في ظروف ناضجة سياسياً وذهنياً، وكأنّها لم تكن خلافات شائكة.

ما لا يمكن تجاوزه بسهولة هو نظرة كلّ طائفة إلى مرآة نفسها، وإلى دورها في هذا الكيان، ونظرة الطوائف بعضها إلى بعض، والأساطير والرموز والأبطال التي تتشبّث بها كلّ طائفة، وتنسج حولها الحكايات، ومن الممكن جدّاً أن تخوض حروباً من أجلها (انظر: المارونية السياسية سيرة ذاتية، كتاب “السفير”). إلى هذا المستوى، وصل اللبنانيون في خلافهم الكلاسيكي، الذي لم يتمكّن الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح من تخطّيه في ميثاقهما الوطني عام 1943، ولا نجحت كلّ الأوراق الإصلاحية في إخماده وصولاً إلى اتفاق الطائف عام 1989. فلم تعد المشكلة في المشاركة السياسية الفعليّة، بعدما نزع اتفاق الطائف احتكار السلطة التنفيذية من يد رئيس الجمهورية الماروني، وأرساها عند مجلس الوزراء مجتمعاً.

الحكومة منذ الطائف توافقية، والطوائف فيها ممثَّلة بالأحزاب التي تتحدّث باسمها، أو تحتكر تمثيلها. مع ذلك، ظلّ شيءٌ ما عالقاً دونما حلّ. لبنان لِمن؟ لبنان الكبير وُلد قبل مئة عام. والمسلمون قبلوا به عقب امتناع. وفات الأوان على تصحيح “الخطأ التاريخي”، والعودة إلى “لبنان صغير” غير واضح المعالم. إن كنّا اتّفقنا في يوم ما على لبنان الكبير وحدوده، وبصعوبة بالغة، فهل بمقدورنا اليوم الاتّفاق مجدّداً على لبنان صغير هنا، وآخر هناك؟ وما هي الحدود والحقوق والواجبات لكلّ طائفة وما تملك، وكلّ ولاية وما تتضمّن؟ وما طبيعة السلطة الاتحادية المركزية وما تحوزه من صلاحيّات؟ لا بدّ أوّلاً من تشخيص المشكلة بدقّة قبل تحديد الحلّ.

بعد أكثر من 33 سنة على اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، نبدو بعيدين جدّاً عن فهم دروس التاريخ. نخطئ مرّة وأخرى، ونُدمن على ارتكاب الأخطاء

مشكلات ودروس

ـ أوّلاً، لم يرتضِ المسيحيون نزع الصلاحيات التنفيذية من رئيس الجمهورية. هذه هي الحقيقة، بدليل أنّهم كلّهم، وعلى الرغم من تصنيفاتهم المتنافرة، بين سياديين وممانعين، بين طائفيين باطناً وعلمانيين ظاهراً، يدعون إلى استرداد صلاحيات رئيس الجمهورية، ولو بالحيلة. أليس هذا هو جوهر الأزمة السياسية التي عاشها لبنان على مدى ستّ سنوات كاملة. وردّة المسيحيين عن هذا البند الإصلاحي الذي أقرّه اتفاق الطائف، وبات جزءاً من الدستور الحالي، تكفي وحدها لإسقاط اتفاق الطائف، من أساسه. وثمّة انتهاك جماعي للدستور، سواء بالممارسة والقول، أو التواطؤ والسكوت. عمليّاً، نعيش منذ سنوات، من دون دستور. لنسترجع التاريخ. كانت المشاركة السياسية هي عقدة النظام القديم. حاول اتفاق الطائف حلّها. وكانت التجربة مريرة، ليس لأنّ الاتفاق سيّئ، بل لأنّ الطبقة السياسية المتجدّدة كانت سيّئة، ونسجت علاقة زبائنية مع جماهيرها، وما زالت تُنتج نفسها في كلّ انتخابات.

ـ ثانياً، الاتفاق التأسيسي في مدينة الطائف عام 1989، صنع النسخة المحدّثة للبنان، بعد استيعاب أخطاء الولادة الأولى. من غير الإنصاف القول إنّ تجربة مئة عام أوصلتنا إلى هنا. لبنان الفرنسي بين عامَيْ 1920 و1943، لا يعنينا بشيء. لم تكن ثمّة دولة لبنانية ذات سيادة، بل دولة دُمية بيد الاحتلال. علينا بادئ ذي بدء الإقرار أنّه كان احتلالاً، وتحرّرنا منه بانتفاضة جامعة، شارك فيها المسلمون والمسيحيون معاً. أمّا لبنان الأوّل، بين عامَيْ 1943 و1989، فقد كان يعاني من آثار الاحتلال الفرنسي. ومن آثاره بقيّة أوهام عند بعض اللبنانيين بأنّ هذا الكيان أُنشئ من أجلهم، وأنّ المناطق المُلحقة بجبل لبنان عام 1920، هي بالدرجة الأولى، لخدمة الكيان المسيحي في طبيعته ووظيفته. لذا رفضوا الاستجابة لكلّ مطالب شركائهم بحقّ المشاركة في القرار، إلى أن دخلت عوامل خارجية، فلسطينية وسورية، مع موجات عروبية، فكان ما كان ممّا لا حاجة إلى ذكره أو تكراره.

ـ ثالثاً، كانت الحرب الأهليّة البشعة بين عامَيْ 1975 و1976، محاولة جادّة وفاشلة لتطهير لبنان الكبير من الدخلاء عليه. فقامت دويلات أمر واقع، راحت تتقاتل فيما بينها، ونشبت حروب تطهير داخل كلّ دويلة من أعداء النوع نفسه، وتصفية الخصوم السياسيين من دون رحمة. كانت تلك حقبة دموية أخرى ما بين عامَيْ 1978 و1989، وهي حقبة الفدرالية الطائفية، وقد انتقلت من فدرالية الطوائف المبطّنة في النظام السياسي القديم، في ظلّ دستور عام 1926 وتعديلاته، إلى الفدرالية الضمنيّة من دون إعلان، وبقيت الأجهزة الرسمية في حدّها الأدنى: رئاسة جمهورية، وحكومات، وبرلمان ممدَّد له منذ عام 1972، وأجهزة أمنيّة وعسكرية منقسمة بحسب المناطق، بسبب الميليشيات الحاكمة في مناطقها. كانت تلك تجربة الفدرالية في الواقع. ولا يمكن إغفال تلك التجربة، حين الحديث مجدّداً عن الفدرالية الآن، ومن دون استيعاب الدروس الماضية. فهل اللبنانيون قادرون على الفراق حضارياً، ومن دون أن يؤدّي ذلك إلى جرعات زائدة من التعصّب والانعزال وعدم الاعتراف بالآخر ولا احترام رموزه أو مقدّساته؟

الحكومة منذ الطائف توافقية، والطوائف فيها ممثَّلة بالأحزاب التي تتحدّث باسمها، أو تحتكر تمثيلها

اختلاق التاريخ أم الاعتراف به؟

يقول المؤرّخ كمال الصليبي في كتابه “بيت بمنازل كثيرة: الكيان اللبناني بين التصوّر والواقع“: “إذا كان لأيّة مجموعة من البشر، في أيّ مكان، أن تخلق لنفسها شعوراً بكونها جماعة سياسية، وأن تحافظ عليه، فلا بدّ أن تكون لها رؤية موحّدة لماضيها. وكثيراً ما يكون التاريخ المتصوَّر كافياً لهذا الغرض في المجتمعات التي يسودها تضامن طبيعي، ومنها القبائل والعشائر التي تزعم لنفسها تحدّراً من أجداد أسطوريين، وتكرِّم أبطالاً خياليّين، فتعزّز التلاحم بين العناصر التي تتكوّن منها القبيلة أو العشيرة الواحدة”. بل إنّ أمماً كبرى في غاية الرقيّ تزعم لنفسها من التاريخ، وللغاية نفسها، ما هو أعرق أو أهمّ ممّا تستحقّ، أو أنّها تحرّف تاريخها الحقيقي بطريقة أكثر إشباعاً لغرورها القومي. ويذكّر الصليبي بشرط أساسي لنجاح الأسطورة التأسيسية لأيّ كيان سياسي، وهو أن يخدم الاختلاقُ التاريخي الغرضَ الذي أُنشئ من أجله، ولا يؤدّي المراد منه إذا لم يكن ثمّة قبول عامّ به. ولا يتحقّق هذا القبول إلا في المجتمعات التي تتمتّع بقدرٍ عالٍ من الانسجام، ولا تتعدّى خلافاتها الداخلية حدّاً معيّناً. وهذا الشرط يستحيل توافره في المجتمعات المتنافرة في بنيتها، والتي صودف أنّ عناصرها المختلفة أصلاً وُجدت، في بيئة جغرافية واحدة، من دون أن تتّحد. وفي مجتمعات كهذه، فإنّ أيّ تصوّر تاريخي يُرضي فئةً ما، يمكن أن يُغضب فئةً أخرى. ولا يمكن أن يحظى تصوّر تاريخي ما بالقبول العامّ إلا إن كان ملائماً لجميع الأفرقاء. وحتى هذا القبول يبقى هشّاً ومعرّضاً للسقوط، إن لم يكن المجتمع ككلّ مستقرّاً، ونائياً عن تأثيرات الظروف المتغيّرة.

لبنان هو نموذج ممتاز لما قرّره المؤرّخ الصليبي في هذا المجال، عام 1988، أي قبل اتفاق الطائف وإنهاء الحرب. فما هو الحلّ إذاً؟ يقول الصليبي إنّ تزوير التاريخ لا ينفع في بقاء المجتمع، المنقسم على نفسه أصلاً، ملتحماً في ظرف سياسي ما سرعان ما يتبدّل. لبنان محكوم إذاً بمعرفة حقائق التاريخ، وتعلُّم كيفيّة التعايش معها، لا إغفالها أو تجاهلها. هذا إن أراد البقاء. وإنّ أيّ تسوية سياسية، برأيه، لا يمكن أن تدوم إن لم تأخذ بعين الاعتبار مسائل التاريخ. فقبل أن يصل اللبنانيون إلى درجة من التضامن الاجتماعي، فيقف بعضهم مع بعض كجماعة سياسية قابلة للديمومة، عليهم أن يعرفوا بدقّة من هم؟ وما علاقتهم بالعالم الخارجي؟ لماذا هم لبنانيون؟ وكيف أصبحوا لبنانيّين؟ وبغضّ النظر عن الطريقة التي سيُعالَج بها الخلاف فيما بينهم، سيستمرّون في البقاء مجموعة من العشائر البدائية المتنافرة التي تسمّي نفسها “عائلات روحانية”، وليس فيها من الروحانية شيء!

إقرأ أيضاً: فيدرالية للحلّ أم للحرب؟

بناء على وصفة المؤرّخ كمال الصليبي للحلّ في لبنان، علينا مواجهة الحقائق، بدل إقفال باب التاريخ على ما فيه. لماذا؟ لأنّنا بعد أكثر من 33 سنة على اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، نبدو بعيدين جدّاً عن فهم دروس التاريخ. نخطئ مرّة وأخرى، ونُدمن على ارتكاب الأخطاء، ثمّ نرفض الدواء، ونشتم الطبيب، ونبحث عن دواء آخر لدى طبيب آخر، لنشتمه لاحقاً.

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…