عصابات طرابلس تُخرج لسانها للدولة والأجهزة والخطّة الأمنيّة

مدة القراءة 7 د

تبدو مدينة طرابلس وكأنّها على فوّهة بركان غاضب يقذف حِمَمه النارية في كلّ أحيائها وشوارعها. فهي تشهد ارتفاعاً مخيفاً وغير مسبوق في وتيرة العمليات الإجرامية: قتل وتشليح وإشكالات دموية متنقّلة. والسلاح حاضر في كلّ مكان، حتّى في الأفراح والأتراح.

ينهمر الرصاص بغزارة عازفاً نشيد الموت في نهارات المدينة المتعبة ولياليها المظلمة. قيل قديماً إنّ السلاح زينة الرجال، لكنّه أمسى بالنسبة إلى غالبية الشباب في عاصمة الشمال من أساسيّات البقاء على قيد الحياة، مثل رغيف الخبز، بسبب انتشار الجريمة.

 

العصابات تُلاعب الأجهزة

يوم الخميس، قبل ثلاثة أسابيع (22 كانون الأوّل 2022)، قام أحد الشبّان من راكبي الدرّاجات النارية بإطلاق النار على رأس الشابّ عبد الله عيسى في منتصف النهار، على خلفيّة أفضلية المرور، فأصابه إصابة مميتة، لكنّ الله قيّد له النجاة.

تبدو مدينة طرابلس وكأنّها على فوّهة بركان غاضب يقذف حِمَمه النارية في كلّ أحيائها وشوارعها. فهي تشهد ارتفاعاً مخيفاً وغير مسبوق في وتيرة العمليات الإجرامية

أثارت هذه الجريمة موجة غضب شعبي واسعة، ليس لأنّها الأولى، بل لأنّها موثّقة بإحدى كاميرات المراقبة. وقد شاهدها اللبنانيون على هواتفهم في اليوم نفسه. فكان قتلاً “مباشراً Live”. وهذا ما دفع الأجهزة الأمنيّة إلى زيادة فعاليّة الخطّة الأمنيّة المطبّقة في مدينة طرابلس وجوارها. فاستقدم الجيش تعزيزات كبيرة، ونفّذ عمليات مداهمة على نطاق واسع. وكذلك فعلت قوى الأمن الداخلي التي عزّزت حضورها، وضاعفت من حواجزها ليلاً ونهاراً. في المقابل، ردّت العصابات على كلّ تلك الإجراءات بتنفيذ خمس عمليّات سلب وتشليح في الليلة نفسها، بحيث بدت وكأنّها تُخرج لسانها للدولة وأجهزتها وخطّتها الأمنيّة.

استمرّ الكرّ والفرّ بين الأجهزة والعصابات طوال أيّام الأسبوع الفائت، فجرت مداهمات كانت حصيلتها اعتقال عدد وافر من المطلوبين، ومصادرة أسلحة ومخدّرات وممنوعات أخرى، في مواجهة ارتفاع وتيرة العمليّات الإجرامية. ثمّ شهد الخميس التالي (29 كانون الأوّل 2022) ثلاث عمليّات إطلاق نار: واحدة فجراً أُصيب فيها جندي في الجيش على يد ملثّمين، وأخرى ظهراً داخل حرم معهد طرابلس الفنّي الرسمي (مهنية القبّة) على خلفيّة معاكسة إحدى الفتيات، وثالثة بين شابّين حوّلا وسط المدينة المكتظّ بالمارّة والسيّارات في منطقة التل إلى ميدان رماية بالرصاص الحيّ. وكأنّنا في مشهد من فيلم أو مسلسل بوليسي. فكانت النتيجة مقتل الشابّ عمر حمد الذي صُودف مروره مع زوجته ولا علاقة له بالمشهد البوليسي. وقد حجبت الحادثة الأخيرة الاهتمام عمّا حصل قبلها وأيضاً بعدها.

إلى ذلك، تعرّضت عند غروب اليوم نفسه امرأةٌ للنشل في إحدى النقاط الساخنة في “شارع عزمي” التجاري قرب “بنك لبنان والمهجر”، التي تشهد في مثل هذا التوقيت ازدحاماً هائلاً. السؤال الذي يطرح نفسه: من أين تستمدّ هذه العصابات قوّتها وجرأتها؟

 

سقوط هيبة الدولة

يميل الشارع الطرابلسي إلى تحميل الأجهزة الأمنيّة المسؤولية عن ارتكابات هذه العصابات. لم ينشأ هذا الاعتقاد من فراغ، بل نتيجة ما خَبِره الطرابلسيّون لعقود خلت من ممارسات تلك الأجهزة التي تولّت تربية ورعاية الزعران من أجل السيطرة على قرار المدينة.

بيد أنّ المشكلة أعقد من ذلك بكثير. يكشف مرجع أمنيّ لـ”أساس” أنّه ما إنْ يتمّ توقيف أحد المطلوبين، حتى تنهمر الاتّصالات من السياسيّين لتخلية سبيله، وذلك على النقيض من بياناتهم ومواقفهم الشعبوية، التي تُدين الإجرام وتستنكره. ويحدث أنْ يتّصل أخصام في السياسة من أجل الشخص عينه.

ما يزيد الطين بلّة هو اعتكاف القضاء الذي يدفع الناس إلى أخذ ما يعتبرونه حقّهم بيدهم. فصار كلّ شخص يميل إلى إصدار الأحكام بنفسه، ثمّ تطبيقها. لكنّ ذلك لم يكن ليحدث لولا تراجع هيبة الدولة، التي كانت منقوصة في مناطق الأطراف قبل الانهيار الاقتصادي عام 2019. أمّا بعده فلم يبقَ سوى الحدّ الأدنى منها. وحتّى هذا الحدّ مهدّد بالزوال.

لا ينحصر هدف أيّ خطّة أمنيّة بالقبض على المجرمين، بل يجب أن يشمل إرساء مناخ من الاستقرار يرتكز على مفهوم هيبة الدولة، بما يردع أصحاب الفكر الإجرامي ويجعلهم يعيدون حساباتهم قبل الإتيان بأيّ فعل غير قانوني، حتّى لو كان إطلاق نار في الهواء. ولا يمكن لأيّ خطّة أمنيّة أنْ تنجح من دون أساس سياسي متين، حتّى لو تمّ نشر الجيش كلّه ومعه قوى الأمن الداخلي.

يميل الشارع الطرابلسي إلى تحميل الأجهزة الأمنيّة المسؤولية عن ارتكابات هذه العصابات. لم ينشأ هذا الاعتقاد من فراغ، بل نتيجة ما خَبِره الطرابلسيّون لعقود خلت من ممارسات تلك الأجهزة

لا يعني ذلك العودة إلى مفهوم “الأمن بالتراضي”، بل يجب الضغلط لمنع السياسيّين من التدّخل لحماية الزعران والمخرّبين، وتضييق الهامش الذي تستغلّه بعض الأجهزة وضبّاطها لبسط سطوتهم ولعب أدوار سياسية.

المثال الأوضح على ذلك كان في الخطّة الأمنيّة عام 2013، التي أشرف على تنفيذها وزير الداخلية نهاد المشنوق في عهد حكومة الرئيس تمام سلام. ليس لأنّه ناشر الموقع، بل لأنّها كانت الخطة الأمنيّة الوحيدة الناجحة.

 

نموذج النجاح

منذ عام 2005، طُبّقت عشرات الخطط الأمنية في طرابلس وغيرها. تشهد بذلك مقرّرات مجلس الوزراء، ولا سيّما تلك التي اتّخذتها في عام 2011 حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي وصل بها الحال إلى إعلان حال الطوارئ في طرابلس ووضعها تحت إمرة الجيش. لكنّ كلّ تلك الخطط كانت بلا جدوى لافتقارها إلى الغطاء السياسي.

أمّا الخطّة التي أقرّتها حكومة الرئيس تمام سلام ونفّذها الوزير المشنوق فنجحت لأنّه هيّأ لها الأرضية السياسية والأمنيّة قبل البدء بتطبيقها. ومع أنّ عدداً من السياسيين سخر منها لأنّه تمّ التسويق لها قبل تطبيقها، بما منح المطلوبين زمناً كافياً للهروب، إلا أنّ الهدف من الخطّة تحقّق، وهو إنهاء اللعبة الدموية في شوارع طرابلس، بغطاء سياسيّ واسع، ومن دون الخوض في نهر جديد من الدماء. وكان “الإعلان” في هذا المعنى حامياً وحاقناً للدماء، مع النتيجة الأفضل. فلم يجرؤ أيّ من السياسيّين على التوسّط من أجل حماية أحد أزلامه من المطلوبين خوفاً من افتضاح أمره أمام الرأي العامّ، وانسحب المخرّبون إلى جحورهم. وهذا ما يجب أن يحصل اليوم. فلا يستطيع أيّ سياسيّ بمفرده توفير المظلّة اللازمة لنجاح الخطّة الأمنيّة، بل يجب أنْ يكون ذلك عملاً جماعياً، وهو ما يبدو أنّه شبه مستحيل في ظلّ التشرذم السياسي السنّيّ.

إذ ينصبّ اهتمام الرئيس ميقاتي على إدارة شؤون الدولة، وعلى إدارة صراعه مع التيّار الوطني الحرّ ورئيسه جبران باسيل. وحسب المعلومات، فهو بعيد تماماً حتّى عن التدخّل من أجل الإفراج عن أيّ موقوف، وهو عموماً يخلع عنه “طرابلسيّته” فور دخوله السراي الحكومي، بمعزل عن كلامه المعسول.

إقرأ أيضاً: من طرابلس إلى كلّ لبنان”: أيّام “القتل العادي”

الأمر نفسه ينسحب على وزير الداخلية بسام مولوي الطرابلسيّ أيضاً. أمّا نوّاب المدينة فلن يبادر بعضهم إلى التخلّي بالمجّان عمّن يعتبرونهم أساس قاعدتهم الشعبية. في حين أنّ البعض الآخر بعيد تماماً عن هذه الأجواء، وغير قادر على التأثير فيها لا سلباً ولا إيجاباً.

يجعل كلّ ذلك الخطط الأمنيّة تتوالى الواحدة تلو الأخرى من دون فائدة تُذكر. هذا الواقع يُفسح المجال أمام العصابات كي تتوسّع في أعمالها وفي أعداد منسوبيها، بما يجعل طرابلس أمام حلّ وحيد ودارج في الآونة الأخيرة، وهو الأمن الذاتي. وهنا الطامة الكبرى. فبعد مئة سنة من العلاقة الملتبسة بين الدولة وعاصمتها الثانية، ها نحن ذا نعود من جديد إلى المربّع “صفر”.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…