في سالف الزمان، كانت جريمة القتل أو محاولة القتل تعتبر حدثاً يجذب اهتمام وسائل الإعلام والرأي العام المحلّي، فيتسابق الجميع إلى التقاط التفاصيل، والبحث عن الدوافع الكامنة خلفها.
أمّا بعد المقتلة الكبيرة التي دخلها اللبنانيّون، مسيَّرين لا مخيَّرين، منذ أفِلَت شمس الدولة المثقلة بأحمال الفساد، فلم يعد ذاك الاهتمام موجوداً، وتحوّلت الجرائم إلى حدث عاديّ، في مؤشّر إلى أنّنا نعيش في مرحلة “العنف الأهليّ”.
بالطبع لسنا في خضمّ حرب أهليّة، ولا نعيش موجة اغتيالات أو تفجيرات متنقّلة، ولا وجود لمحاور قتالية بين الجيران الألدّاء، إلّا أنّه في كلّ يوم يسقط قتلى جدد يلتحقون بـ”قافلة الدم”. وهذا حال أغلب المدن والقرى والدساكر في لبنان، ومنها طرابلس.
فمن ذا الذي يُبدي اهتماماً بعدد القتلى أو الجرحى، الذين هم في الأساس مشروع قتلى نجوا بأعجوبة، الذي يسجلّه العدّاد في عاصمة الشمال، وأهلها أنفسهم لم يعودوا يبالون بذلك؟ إنّه خبر من بضعة أسطر وحسب يمرّ عليه الواحد منّا سريعاً في جولاته على المجموعات الإخبارية. وكلّ ذلك يحدث في ظلّ “خطّة أمنية”.
لا تعكس الإحصائيات الرسمية حقيقة ما يحصل بدقة من جرائم، إذ لم يعد الكثير من اللبنانيين يجدون أي جدوى من الإبلاغ الرسمي عن أي جريمة تعرضوا لها، خصوصاً في طرابلس، في ظل تحلل الدولة والبطالة القضائية وكثرة “الإكراميات” الإلزامية في مراكز فرض القانون المختلفة، وتدخلات السياسيين والأجهزة الاستخباراتية لحماية الجناة.
مع ذلك نلحظ ارتفاع معدل عمليات “التشليح” في 2020 وثباته حتى اليوم، مقابل انخفاض كبير في معدل جرائم النشل، وهذا بالتحديد مرده الى عدم التبليغ. فمن يتعرّض للنشل قد يتكبد في شكواه أكثر مما خسر بكثير. ولولا خوف البعض على ما نشل منه من بطاقات الهوية أو رخص السوق وما شابه، ربما لما بلّغ أحد.
ميادين القتل
بالطبع كلّ الأمكنة صالحة للقتل، لكنّ ثمّة بقعاً جغرافية أضحت ميادين مميّزة للقتل. إحدى هذه البقاع الساخنة هي التي تُعرف بـ”طريق المنار” في عاصمة الشمال، فيما الاسم الرسمي هو شارع “محيي الدّين مكّوك”، وهو أستاذ اشتهر بقيادته مع بعض زملائه في كلّية التربية الإسلامية تظاهرة طلابية حاشدة ضدّ الانتداب الفرنسي في 13 تشرين الثاني 1943، احتجاجاً على اعتقال أبطال الاستقلال في راشيا. تلك التظاهرة سقط خلالها 14 شهيداً طمست الدولة ذكراهم عمداً في تاريخها الرسمي ومناهجها التعليمية.
هذه الطريق الواصلة بين “بولفار فؤاد شهاب” و”باب الرمل” بتلّة “أبي سمرا” تُعدّ مسرحاً مثالياً للجرائم. فهي طريق صعود وعرة تخلو من السكان حتّى ثلثها الأخير، وفقط على يسار الصاعدين. أمّا على يمينهم، فتبدأ الطريق بـ”مدرسة الفضيلة الرسمية”، وتنتهي بـ”ثانوية جورج صرّاف الرسمية”، وبينهما “معهد طرابلس الفني الرسمي” و”ثانوية عدنان الجسر الرسمية” و”جامعة المدينة”. الأخيرة هي اسم الشهرة لـ”مؤسّسة رشيد كرامي للتعليم العالي”، التي كان اسمها “جامعة المنار”، لذلك اشتهرت الطريق بهذا الاسم وما زالت. وسرّ تغيير اسم الشهرة للجامعة يكمن في العراقيل والمصاعب التي جبهتها بسببه على أكثر من صعيد، إذ تمّ تصنيفها مؤسّسةً لحزب الله بسبب قناة المنار.
بعد خروج الطلبة والتلامذة من هذه الصروح التربوية الخمسة تصبح الطريق في الليل موحشة ومقفرة. أضف إلى ذلك قلّة استخدامها، إذ يفضّل أغلب الناس سلوك طريق غير بعيدة عنها تُعرف بـ”الخنّاق”، لأنّها أسرع وأقرب إلى قلب محلّة “أبي سمرا”، ويفضّلها أيضاً العابرون نحو القبّة والضنّيّة وزغرتا.
سجلّ لافت
لهذه البقعة الجغرافية سجلّ ذكريات لافت. فقد شهدت خلال سنوات ما قبل الانهيار الاقتصادي سرقات عدّة، كان أشهرها تلك التي حصلت للصيدلية الوحيدة هناك، علاوة على التشليح الذي لم يكن مألوفاً في ذلك الحين، وكان يحصل بأن تعترض كمائن على هيئة حاجز أمني طريق بعض المواطنين، وما إنْ تتوقّف سيّاراتهم قربها حتى يُهدَّد الذين في داخلها بالأسلحة لدفعهم إلى تقديم ما لديهم من مال وأشياء ثمينة.
أمّا بعد حدوث الانهيار فصارت أحد الأمكنة المفضّلة لارتكاب الجريمة بأنواعها، ومنها الحادثة الفريدة من نوعها المتمثّلة بنهب “مدرسة الفضيلة الرسمية” منذ سنة تقريباً، والإغارة على الصيدلية نفسها مرّة جديدة. وفي الآونة الأخيرة لم يكن يمرّ أسبوع من دون حصول عمليات تشليح دموية يتمّ فيها إطلاق النار على المستهدَف أو المستهدَفين، وآخرها كان تعرّض نجل الممثّل المسرحي الطرابلسي المعروف بلال موّاس لكمين مسلّح وهو على درّاجته النارية، وأدّى إلى إصابته بساقه لأنّه لم يمتثل لأوامر رجال العصابة.
لا تعكس الإحصائيات الرسمية حقيقة ما يحصل بدقة من جرائم، إذ لم يعد الكثير من اللبنانيين يجدون أي جدوى من الإبلاغ الرسمي عن أي جريمة تعرضوا لها، وخصوصاً في طرابلس
البقاع الطرابلسيّة الساخنة
لم تتحرّك الدولة والأجهزة الأمنيّة والمؤسّسات الرسمية المحليّة بشكل جدّي لوضع حدّ لِما يحصل على طريق المنار لا قبل الانهيار ولا بعده. ليس الأمر قاصراً على ذاك المكان، بل هو مثال فقط، إذ ثمّة بقع ساخنة أخرى، منها مدخل محلّة القبّة المعروف بأ”مشروع النهر” (نهر أبو علي)، وهو شريان رئيس يربط زغرتا والضنّيّة بطرابلس، وذلك بسبب خلوّ الطريق من العمارات السكنية، ويوجد فيه جبل صخري شبيه بذاك الذي انهار عند نفق حامات في البترون.
هناك أيضاً الطريق المعروفة بـ”المحجر الصحّي”، خصوصاً قرب محطّة سكّة الحديد القديمة، التي تُعتبر مدخلاً لمدينة الميناء، حيث تكون المنطقة موحشة ومقفرة. وهناك مدخل طرابلس قرب سنترال الميناء، ولا سيّما تحت الجسر الذي يوصل إلى منطقة البدّاوي ويسمح للعابرين إليها وإلى المنية وعكّار وسوريا بعدم ولوج المدينة.
لا شكّ أنّ كلّ السلوكيّات الإجرامية تقتات من ضعف الدولة وتحلُّل مؤسّساتها. بيد أنّ ما يثير الريبة هو أنّ الأجهزة الأمنيّة في طرابلس وجوارها هي “سيّدة الأرض” منذ ثلاثة عقود إلى اليوم، وهي التي تشرف على تطبيق الخطة الأمنيّة “الإعلامية”، ومع ذلك نجد أنّ العصابات تسرح وتمرح على هواها وترفع من معدّلات الجريمة بشكل مخيف حتّى وصل الحال إلى أن يحمل عدد كبير من الشباب السلاح لحماية أنفسهم وعائلاتهم على الطريق، ولاتّقاء شرّ الخطر خلال تنقّلاتهم. وهذا ما يرفع من خطورة الإشكالات العاديّة التي تحصل كلّ يوم، من دون إغفال أنّ هذا السلاح نجح أحياناً في صدّ بعض محاولات النشل حائزاً بسبب ذلك مشروعيّة أهليّة.
أدب الجريمة
تعالت الأصوات أكثر من مرّة بحثاً عن شرطة بلدية طرابلس الغائبة والتي لا تؤدّي دورها، لكنّنا أُفدنا من بعض المراجع البلدية بأنّها مغيّبة عمداً بقرار من فوق. وثمّة رأي يحظى بقبول في الشارع الطرابلسي في أنّ الأجهزة الأمنيّة تركّز نشاطها “الزائد” على الشبكات الإرهابية التي نسمع عنها دائماً، على حساب معالجة الجرائم، خاصّة أنّ اعتكاف القضاة، وتلكّئهم قبله، جعلا من اعتقال المجرمين “جرماً” بحدّ ذاته، انطلاقاً من الحملة على مؤسّسة قوى الأمن الداخلي، وأيضاً بسبب اكتظاظ السجون التي صارت “معهد تدريب على الإجرام”، تحوِّل السذّج والمبتدئين الى محترفي إجرام خلال سنواتهم هناك.
يُضاف الى ذلك نشوء مناخ يدافع عن الجرائم ويبرّرها بحجة “العوز” و”الفاقة”، مقابل الاستنكارات “الفيسبوكية” و”التويتريّة”، التي تنتهي صلاحيّتها مع نقطة على آخر السطر. وهي لم تفضِ قطّ إلى أيّ تحرّك ضاغط من المنظّمات والأطر المحليّة. و”مَنْ أمِنَ العقاب أساء الأدب”، كما يقول الإمام عليّ بن أبي طالب.
نجد انعكاس هذا المناخ في مواقف السياسيّين والمرجعيّات وقادة الرأي، التي تخلو من أيّ إشارة إلى ما يحدث في المدينة. وعندما تصبح الجرائم من قتل، واعتداءات مسلّحة، وتشليح علنيّ، أمراً مبرَّراً أو عاديّاً، فهذا يعني أنّ طرابلس، كما غيرها من المدن، تعيش “أيّام القتل العاديّ”.
إقرأ أيضاً: طرابلس في استراتيجية بايدن للأمن القوميّ!
وكما يقول الكاتب وضّاح شرارة في كتابه المقتبس عنوان المقال منه: “ذريّة الحوادث، شأن أصحابها وأهلها، لا تزال حيّة ترزق”، ومنها تتناسل الثارات التي لا تنتهي، ليس فقط تُجاه القتلة، إنّما أيضاً ضدّ الدولة.
تفتح هذه التطوّرات والأحداث الباب مرّة جديدة على إمكانية حدوث “قيامة ما” على شاكلة “دولة المطلوبين” مطلع السبعينيّات، و”الإمارة الإسلامية” مطلع الثمانينيّات، التي وُلدت من رحم أيّام قتل عاديّ مماثلة، وكذلك “إمبراطوية قادة المحاور” بين عامَيْ 2005 و2013. السؤال الذي يطرح نفسه في مثل هذه الأحوال المعقّدة هو ذاك الذي عنون به لينين كتابه: “ما العمل؟”.