تضاربت الأنباء حول زيارة الرّئيس الإيرانيّ إبراهيم رئيسي لعاصمة الأمويّين دمشق. بلغنا الثّلاثاء الموعود ولم يصل رئيسي إلى قصر المُهاجرين كما كان مُتوقّعاً. يدور الحديث عن أنّ الزّيارة لا تزال قائمة، لكن أُرجئت إلى “وقتٍ قريب” لم يُحدَّد. ووفق ما يتردّد فإنّ التأجيل مردّه إلى تباينات جدّيّة بين دمشق وطهران تتعلّق بمطالب إيرانية ترى سوريا أنّها لا تستطيع تحمّلها لأنّها تجعل اليد العليا لنظام الملالي.
ماذا يريد رئيسي من زيارة دِمَشق؟
الرّئيس الإيرانيّ بنزوله على أرضِ مطار دمشق الدّوليّ يحمل “رسائل في عدّة اتجاهات إقليميّة ودوليّة”، وأبرزها أنّ إيران باقية في سوريا، وستشدّ قبضتها أكثر من أيّ وقتٍ مضى، على ما قال مصدر إقليمي رفيع لـ”أساس”.
الإرباك والارتباك اللذان طبعا الزيارة سببهما طلب إيران من سوريا عقد اتفاقيات مشتركة من طبيعة حسّاسة، من ضمنها مُعاملة الإيرانيين في سوريا مُعاملة المواطن السّوريّ في شتّى المجالات باستثناء المثول أمام القضاء. فقد طلبَ الإيرانيّون أن يُحاكمَ المواطن الإيرانيّ أمام قضاء بلاده في حال ارتكابه جرماً على الأراضي السّوريّة.
تسعى دوائر القرار في طهران إلى دمج الإيرانيين الموجودين على امتداد الجغرافيا السّوريّة بالمجتمع السّوريّ، ويشير المصدر لـ”أساس” إلى أنّ المسؤولين في دمشق يتحسّسون من المطلب الإيرانيّ الذي يُعتبَر “مُقدّمةً لتوطين الإيرانيين” في سوريا في إطار الحرب الدّيمغرافيّة التي يشنّها نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في مُدنٍ سوريّة أساسيّة أبرزها العاصمة دمشق ومحيطها، وحلب ثاني أكبر المُدن.
عَلِمَ “أساس” أنّ رجلَ أعمالٍ سوريٍّ مُقرّب من طهران اشترى مُعظَم محطّات الوقود في المناطق الخاضعة لسيطرة النّظام السّوريّ، على أن يُزوّدها بالمُشتقّات النّفطية الآتية من إيران
تعتبر طهران أنّ لها الفضل الأكبر في إنقاذ النّظام السّوريّ عبر تدخّلها العسكري المُباشر على الأرض السّوريّة، فضلاً عن الوساطة الشّهيرة التي قامَ بها القائد السّابق لـ”قوّة القُدس” قاسم سليماني مع الرّئيس الرّوسيّ فلاديمير بوتين، ونتَجَ عنها التّدخّل العسكريّ الرّوسيّ في الحرب السّوريّة الذي قلبَ موازين القوى لصالح النّظام.
لا يقلق رئيسي من الموقف الرّوسيّ، بل على العكس. باتت إيران شريكاً مُباشراً في حرب بوتين على أوكرانيا، حيثُ تنهمر طائراتها الانتحاريّة “شاهد 136” على العاصمة الأوكرانيّة. وما يُعزّزُ الشّراكة الرّوسيّة – الإيرانيّة هو الموقف الإسرائيليّ المؤيّد لأوكرانيا ورئيسها فولوديمير زيلينسكي، ولا تجدُ موسكو ردّاً على تل أبيب أفضلَ من مشهد دخول إبراهيم رئيسي قصر المُهاجرين.
النّفط والاقتصاد
بحسب المصدر يطمح الإيرانيّون إلى تنشيط “خطّ الائتمان النّفطي”، الذي اتُّفِقَ عليه أثناء زيارة الرّئيس السّوريّ بشّار الأسد لطهران قبل أشهر. ويجد الطموح الإيراني هذا فرصةً سانحةً اليوم أكثر من أيّ وقت مضى في ظلّ ما تواجهه سوريا من أزمة مشتقّات نفطيّة غير مسبوقة وانهيار دراماتيكيّ للّيرة السّوريّة.
لكنّ تفعيل الخطّ اللوجستي النّفطيّ بشكلٍ فعّال مرهونٌ بموافقة دمشق على المطالب الإيرانيّة المُتعلّقة بالاتفاقيّات، وهذا ما يُفسّر تأخّر طهران المُتعمّد في إرسال 3 سفن مُحمّلة بالمُشتقّات النّفطيّة كانَ قد طلبها بشّار الأسد أثناء زيارته طهران، ولاحقَ أسباب تأخّرها وزير الخارجيّة فيصل المقداد واللواء علي مملوك من دون أن يحصلا على جواب من طهران.
في هذا الإطار، عَلِمَ “أساس” أنّ رجلَ أعمالٍ سوريٍّ مُقرّب من طهران اشترى مُعظَم محطّات الوقود في المناطق الخاضعة لسيطرة النّظام السّوريّ، على أن يُزوّدها بالمُشتقّات النّفطية الآتية من إيران، التي ستدخل عبر ميناء اللاذقيّة.
لا تهدف طهران من هذه الخطوة إلى دعم الاقتصاد السوري بقدر ما تريد إحكام قبضتها على الأمن الاجتماعيّ في مناطق النّظام، التي تشهد احتقاناً غير مسبوقٍ، ابتداء بالسّويداء جنوباً حيث الغالبيّة الدّرزيّة، وصولاً إلى المناطق ذات الغالبيّة العلويّة في اللاذقيّة وطرطوس وجبلة، مروراً بالعاصمة دمشق ومدينة حلب.
في السّياسة أيضاً، تضغط طهران على حليفها في دمشق عبر تعليقها العمل بخطّ تهريب المشتقّات النّفطيّة عبر الحدود العراقيّة، بعد الالتزام الإيرانيّ للأميركيين بوقف التّهريب إلى سوريا، الذي كان أحد الشّروط التي جاءَت بمحمّد شيّاع السّودانيّ رئيساً للوزراء في بغداد.
تشير معلومات “أساس” إلى أنّ سلطنة عُمان لعبت دوراً بارزاً في إعادة فتح خطوط التّواصل بين دمشق وعددٍ من الدّول العربيّة
نعم لتركيا… لا للعرب
لن يقفَ الإيرانيّون عند أعتاب النّفط فقط. دخلوا على الخطّ لإقناع الرّئيس السّوريّ بضرورة الاجتماع مع الرّئيس التّركيّ رجب طيّب إردوغان، وذلك بهدف فرملة اندفاعة النّظام نحو فتح خطوط تواصل مع الدّول العربيّة، بلغ ذروته خلال الأسابيع الماضية.
تشير معلومات “أساس” إلى أنّ سلطنة عُمان لعبت دوراً بارزاً في إعادة فتح خطوط التّواصل بين دمشق وعددٍ من الدّول العربيّة، وذلك بعدَ الزّيارة التي قامَ بها وزير خارجيّتها بدر البوسعيدي قبل شهر لدمشق ولقائه الرّئيس الأسد.
في سياق محاولة الانفتاح على العرب، زارَ رئيس المُخابرات العامّة اللواء حسام لوقا المملكة العربيّة السّعوديّة لـ3 أيّام وعقدَ لقاءاتٍ مع عدد من المسؤولين الأمنيين البارزين، فيما زار مدير مكتب الأمن القوميّ اللواء عليّ مملوك دولاً عربيّة أخرى، وهذا يدحضُ الكلام عن إزاحة الأخير من المشهد السّوريّ، إذ تتوزّع الأدوار بينه وبينَ اللواء لوقا.
بحسب معلومات “أساس”، سمع لوقا ومملوك من المسؤولين العرب كلاماً واضحاً عن أنّ المدخل الرئيس إلى أيّ عودة سوريّة إلى الحضن العربيّ وانخراط الدّول العربيّة في إعادة إعمار سوريا هو تغيير النّظام السّوريّ لطبيعة العلاقة القائمة مع طهران. يُضاف إلى ذلك وقف كلّ محاولات تهريب المُخدّرات عبر الأراضي السّوريّة إلى الدّول العربيّة عبر الحدود الجنوبيّة مع الأردن.
لن تُعجِبَ طهران اندفاعة الأسد نحو الدّول العربيّة. ولذا ينوي رئيسي أن يقف في دمشق ويقول إنّ “أيّ حديثٍ بشأن سوريا ينبغي أن يكونَ عبر إيران وليسَ عن دورها”.
يُريدُ رئيسي أن يلعَبَ دوراً في تقريب وجهات النّظر بين الرّئيس السّوريّ بشّار الأسد والرّئيس التّركيّ رجب طيّب إردوغان. وكانَ الرّئيس الإيرانيّ أبلغَ نظيرَيْه الرّوسي والتركي أثناء القمّة الثّلاثيّة التي عُقِدَت في طهران في تمّوز الماضي أنّ بلاده تُشجّع أيّ اجتماعٍ مُحتمل بين الأسد وإردوغان.
كذلك، تؤكد المصادر أنّ اللقاء الذي أعلنت عنه وزارة الدفاع الرّوسيّة بين وزراء دفاع ومسؤولي الاستخبارات في تركيا وسوريا وروسيا في العاصمة الرّوسية موسكو تمّ بالتشاور مع إيران.
وبحسب معلومات “أساس”، فإنّ لقاء موسكو الثلاثي سبقه اجتماع بين الرئيس السوري بشار الأسد واللواء علي مملوك مع وزير الخارجيّة التركيّ مولود تشاووش أوغلو ورئيس الاستخبارات التركيّة حقان فيدان في مدينة اللاذقية على السّاحل السّوري.
يصف المصدر اللقاء بين الأسد وأوغلو وفيدان بالإيجابيّ جدّاً، وتناول تفعيل اتفاقيّة أضنة الموقّعة بين دمشق وأنقرة سنة 1998 وإجهاض أيّ محاولة كرديّة لإعلان “الحكم الذّاتي” شمال شرق سوريا.
“قسد” على المائدة
تعتبر إيران أنّ تقارب الأسد والرّئيس التّركيّ يُساهم في ضرب قوّات سوريا الدّيمقراطيّة ذات الغالبيّة الكُرديّة (قسد)، المدعومة من الولايات المُتحدة. وتجدُ إيران في هذا التّقارب فرصةً سانحة لـ”مُعاقبة” “قسد”، وشلّ اليد الأميركيّة في شرق الفرات، حيث الحقول النّفطيّة السّوريّة والحدود الواسعة مع العراق.
إقرأ أيضاً: قمة بغداد “الأردنية”: نفخ الروح في حوار السعودية وإيران
إنّ لدى إيران رغبة عارمة في تصفية حساباتها مع الأكراد، الذين تتّهمهم بإشعال التّظاهرات التي باتت تُغطّي معظم الجغرافيا الإيرانيّة. وقد ضربَت طهران إقليم كردستان العراقي مرّات عديدة، وضغطَت على رئيس الوزراء العراقيّ لإرسال الجيش إلى الحدود بين كردستان العراق وإيران. واليوم تسعى إلى عقد ائتلافٍ تركيّ – سوريّ – إيرانيّ تكون مهمّته غير المُعلنة ضربَ الأكراد من إيران إلى سوريا مروراً بالعراق.
إن حصلت زيارة رئيسي لسوريا فستكون متشعّبة وحمّالة أوجه. ستحطّ رسائل بالجملة في عواصم الإقليم وأبعد. لكنّ ردّة الفعل الإقليميّة والدّولية على محاولة إيران تعزيز نفوذها في عاصمة الأمويين ستكون هي الأخرى محطّ الأنظار بعد الزّيارة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@