أيّاً تكن حدود الحراك الجديد لجبران باسيل فهو يبدو الحراك الوحيد المثير للاهتمام، بل والجدّي في لبنان الآن. لا تكمن جدّيّته في استعداد باسيل وقدرته على المبادرة السياسيّة باتجاه خصومه وحسب، بل في أن لا أحد سواه قادرٌ أو مستعدّ للقيام بحراك مماثل في اللحظة الراهنة. بعبارات أخرى، لا تكمن أهميّة لقاء باسيل بخصومه، وبالتحديد وليد جنبلاط، في مبادرته إلى ذلك، بل في تلقّفهم لهذه المبادرات. وهذا يدلّ على أنّ هذه اللقاءات لا تحقّق مصلحة لباسيل فقط، بل ومصلحة خصومه أيضاً، وهو ما يعيد تكريس باسيل رقماً يصعب تجاوزه في المعادلة السياسيّة.
صحيح أنّه لا يمكن فصل حركة باسيل المستجدّة عن خلافه الأخير مع حزب الله، باعتبار أنّ هذا الخلاف شكّل دافعاً لرئيس التيار الوطني الحرّ إلى التحرّك في اتجاهات غير متوقّعة. لكنّ النقطة الأساسية في الرابط بين هذين الأمرين ليست في سعي باسيل إلى توجيه رسائل سياسيّة للحزب عبر حركته تلك، بل في أنّ هذه الحركة بالذات ترسم طريقاً جديدة للعلاقة بين التيار الوطني الحر وحزب الله.
تمكّن باسيل من إعادة إنتاج نفسه على إثر خلافه مع الحزب بعدما كان التيار الوطني الحرّ قد أعاد إنتاج نفسه في عام 2006
“نيو باسيل”.. الابن الضالّ لن يعود
لا يُمكن للحزب التصرّف حيال باسيل كما لو أنّه الأب الذي ينتظر عودة “الابن الضّالّ” إليه، أي كما لو أنّ باسيل سيعود إلى “بيت أبيه” كما تركَه. فخلاف باسيل مع الحزب، ثمّ حركته نحو خصومه يشيران إلى أنّنا أمام “نيو- باسيل”. لكنّ الأهمّ هنا ليس تغيّر باسيل إنّما تغيّر قواعد اللعبة السياسية الذي يدلّ عليه تغيّر باسيل أو العكس. وهذه نقطة تُحسَب لرئيس التيار الوطني الحرّ لأنّه استطاع أن يواكب تغيّر قواعد اللعبة أو أن يُعلن من خلال خلافه مع الحزب وحركته نحو خصومه أنّ هذه القواعد قد تغيّرت وأنّه طرف رئيسي في تعديلها. وهو ما يعطي استقبال جنبلاط لباسيل معنى سياسيّاً “نوعيّاً”، إذ إنّ “البيك” الذي يدير علاقة متشعّبة ومعقّدة مع الحزب، لا يلتقي باسيل بوصفه حليف حزب الله، بل بوصفه حليفاً مستتراً في عملية بناء “توازن” جديد مع الحزب ضمن اللعبة السياسيّة الجديدة.
أبعد من الرئاسة
والحال إذا كانت الانتخابات الرئاسيّة تشكّل العنوان الرئيسي للقاء باسيل – جنبلاط، فإنّ دلالات هذا اللقاء تتجاوز الاستحقاق الرئاسي بحدّ ذاته، باعتبار أنّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية سيشكّل نقطة تحوّل في المشهد السياسي، وبالتحديد لجهة تكريس التوازن الجديد مع حزب الله. وهو توازن يُقاس بالمعادلة السياسيّة التي كرّسها انتخاب ميشال عون في 2016، والتي أظهرت وقتذاك هيمنة مطلقة للحزب على اللعبة السياسيّة.
وللمفارقة فإنّ باسيل، الذي يُتوقَّع أن يتحمّل قبل غيره الوِزر الأساسي لفشل عهد عمّه، استطاع من خلال تمرّده على الحزب والمبادرة السياسيّة باتجاه خصومه التخلّص بسرعة من هذا العبء الثقيل الذي كان يشكّل إحدى أدوات الحزب في الضغط على باسيل رئاسيّاً. وليس قليل الدلالة في هذا السياق أن يُطلق خلاف نائب البترون مع “حزب الله” تبادل الطرفين الاتّهامات بالمسؤولية عن فشل العهد السابق.
أيّاً يكن من أمر فقد تمكّن باسيل من إعادة إنتاج نفسه على إثر خلافه مع الحزب بعدما كان التيار الوطني الحرّ قد أعاد إنتاج نفسه في عام 2006 من خلال التفاهم مع حزب الله، وهو ما يسبغ على تمرّد باسيل على الحزب طابعاً انقلابياً.
حزب الله أوّل الخاسرين
لذلك لا يمكن لحزب الله أن يستسيغ لقاء جنبلاط – باسيل، بل على العكس تماماً فقد توجّس من هذا اللقاء باعتبار أنّ “البيك” يحاول الاستفادة من “انقلاب” باسيل على الحزب لتحسين موقعه ضمن المعادلة السياسيّة الجديدة التي يشكّل عنوانها الأساسي تراجع النفوذ السياسي لحزب الله عمّا كان عليه في عام 2016. وهذا الأمر يُظهر أنّ الحزب، وليس باسيل، هو أوّل الخاسرين من جرّاء فشل عهد حليفه، وإن كانت أسباب هذا التراجع متّصلة بشكل رئيسي بأسباب إقليمية ودولية تبدأ من الوضع داخل إيران ولا تنتهي عند تعثّر المفاوضات النووية بين طهران والغرب وتبعات الحرب الروسيّة الأوكرانية على الأجندات الدولية والإقليمية.
يتراجع الحزب خطوة إلى الوراء في المعركة الرئاسيّة، وهو ما بدا واضحاً في الأيام القليلة الماضية في تصريحات مسؤوليه، وتحديداً محمد رعد ونبيل قاووق ونعيم قاسم
خريطة جديدة
يضع استقبال جنبلاط لباسيل الخريطة الطائفية للّعبة السياسية على الطاولة باعتبار أنّ “زعيم المختارة” يرى في رئيس التيار الوطني الحر أمراً واقعاً مارونياً يستحيل تجاوزه رئاسياً وسياسياً حتّى من قبل حزب الله الذي استطاع فرض ميشال عون على الجميع في 2016 فيما لا يستطيع الآن “انتخاب الرئيس الذي يريد”، كما سبق أن قال محمد رعد.
هكذا أصبحت الآن المعادلة السياسية – الطائفية، التي كانت مقفلة بإحكام من قبل حزب الله في عام 2016، مفتوحة بسبب عاملين: أوّلهما انسحاب سعد الحريري من الحياة السياسيّة، وثانيهما تمرّد باسيل على “تفاهم مار مخايل”. فبعدما فَقَد الحزب بغياب الحريري ظهيراً سنّياً “قويّاً” يستطيع عقد تسوية رئاسية معه وفرضها على الأفرقاء الآخرين أو جعل رفضها من قبلهم أمراً صعباً بل ومستحيلاً، يفقد الآن، بخلافه مع باسيل، ظهيراً مسيحياً “قويّاً” يمكّنه من تحقيق فوز صافٍ في المعركة الرئاسية، وقد بات مضطرّاً إلى خوض الاستحقاق الرئاسي بأقلّ الخسائر الممكنة أو بالحدّ الأقصى الممكن من الربح، لكن أيّاً يكن هذا الحدّ فسيكون أدنى من حدّ 2016.
في المقابل، يتلقّف جنبلاط، الذي لا يرى في “حلفائه” من الموارنة ظهراء أقوياء في المعادلة السياسية الجديدة، “فرصة جبران” لكي يكون شريكاً قويّاً في العهد الجديد، لا عبر نبيه برّي وحزب الله وحسب، بل عبر باسيل أيضاً الذي استحوذ حتّى الآن على “الفيتو الماروني” في الاستحقاق الرئاسي بحيث أطاح بكلّ خصومه المرشّحين، وهذه عادة مارونية قديمة كانت تتطلّب دماءً غزيرة أحياناً. لكنّ الأكيد أنّ كلا الرجلين، جنبلاط وباسيل، لن يذهبا بعيداً في “لعبتهما”، أقلّه ليس إلى الحدّ الذي يُغضب حزب الله وإلا دخلت “اللعبة” دائرة الخطر على كليهما.
إقرأ أيضاً: جنبلاط ـ باسيل: ماضٍ لا يمضي
خطوة إلى الوراء
إزاء كلّ هذه التطوّرات يتراجع الحزب خطوة إلى الوراء في المعركة الرئاسيّة، وهو ما بدا واضحاً في الأيام القليلة الماضية في تصريحات مسؤوليه، وتحديداً محمد رعد ونبيل قاووق ونعيم قاسم، التي ركّزت كلّها على الحوار والنقاش والتوافق لإنجاز الاستحقاق الرئاسي “بأسرع وقت”. وإذا كان من الصعب الفصل بين هذه التصريحات وحراك باسيل الذي أعاد خلط الأوراق على الساحة السياسية وأسدل الستار على العرض المسرحي الذي شهدته الجلسات العشر لانتخاب رئيس للجمهورية، فإنّ الأهمّ هو تزامن “انفتاح” الحزب وتراجعه عن سقفه الرئاسي السابق مع “انفتاح” طهران على الحوار مع دول الجوار، وبالتحديد المملكة العربية السعودية، وإعلانها الاستعداد لاستئناف المفاوضات مع الغرب وإن جاءها الردّ محبطاً. لكن في المحصّلة بدأت المياه الرئاسية الراكدة داخلياً وخارجياً تتحرّك، ولو جزم قاسم أنّ الحوار السعودي – الإيراني لن يتناول الملف اللبناني. لكنّ كلامه لا يؤخذ بحرفيّته، إذ إنّ غايته تأكيد رغبة الحزب بـ”التوافق الداخلي”، ليس لأنّ “طابع الانتخابات الرئاسية داخليّ أكثر منه خارجيّاً”، بل لأنّ التطوّرات السياسية الداخلية تجعل حزب الله أكثر استعجالاً لانتخاب رئيس جديد، ولو كان غير ذلك المرشّح “الذي يريده” فلن يرفضه بطبيعة الحال، وقد تخلّى عن سقف “الرئيس الذي لا يطعن المقاومة في الظهر”، إذ إنّ المقاومة قادرة على أن تحمي نفسها، كما قال نعيم قاسم!
لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@