لم يُعرف عن القادة اللبنانيّين مبدئيّة سياسية يمكن الركون إليها والقياس عليها، خصوصاً أولئك الذين صعدوا بعد انتهاء الحرب. فجُلّهُم لديه دائماً “سببيّة” تسمح بالتقلّب من جهة إلى أخرى. وإذا كان لكلّ قاعدة استثناء فهذا يجد تعبيره في اللقاء الذي جمع الزعيم وليد جنبلاط مع النائب جبران باسيل الذي نال من توصيفات رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي لقب “صهر السلطان”.
يريد الأوّل “صفر” مشاكل مع المسيحيين، والأصل طيّ صفحة قبرشمون، ويملك الكثير في الداخل بدءاً من علاقته مع الرئيس نبيه برّي وصولاً إلى علاقته مع المملكة العربية السعودية، وبينهما حوار مع حزب الله، ومثله تحالف انتخابي مع القوات اللبنانية.
يريد الثاني عبور المتحف غرباً نحو “المسلمين” بعد تصدّع العلاقة مع حزب الله، إضافة إلى انتفائها مع “السُنّيّة السياسية” بكلّ ألوان طيفها، وانسدادها مع حزبَيْ “القوات” و”الكتائب” وغيرهما من القوى والعائلات السياسية المسيحية. لكنّ هذا لا يلغي أنّ الاجتماع حقّق تبريداً في الاحتدام القائم، يريدها الطرفان. في الأحوال كلّها يُسجَّل أنّ لباسيل قدرة استثنائية على الحضور السياسي مقارنةً بغيره من القيادات المسيحية السياسية.
تجلّى الصراع عند باسيل يوم صعد إلى دير القمر لإحياء “قدّاس الغفران” الذي أراده موجّهاً إلى بني معروف، وكان أن استوعبه زعيم الحزب التقدّمي الاشتراكي
لا تعني التبريد المتحقّق أنّ أفقاً جديداً اشتقّه الرجلان يلغي ما قبله من خلافات عميقة يمكن استعادتها مستقبلاً لاختلاف أجندات الطرفين، لا بل قل خلافات على موقع الجبل وهويّته المحكومة، تاريخياً، بين الأميرين فخر الدين وبشير. هذا كان دائماً حاضراً بقوّة، وقد وجد أوضح تعريفاته عند جنبلاط في مقولة “الجنس العاطل” ذات انتخابات، بعدما عَرَّفَ عودة ميشال عون من فرنسا بـ”التسونامي”، الذي ينبغي الحذر منه. فكان أن ارتفعت أسوار التباعد قبل أن تحطّ طائرة عون في مطار بيروت.
تجلّى الصراع عند باسيل يوم صعد إلى دير القمر لإحياء “قدّاس الغفران” الذي أراده موجّهاً إلى بني معروف، وكان أن استوعبه زعيم الحزب التقدّمي الاشتراكي إلى حين انفجاره ذات قبرشمون فكاد يطيح بمصالحة الجبل ويعيد الأمور إلى زمن الحرب.
استثناء إيجابي واحد سجّله ميشال عون نحو “بني معروف” يوم كان ضابطاً في الجيش اللبناني. آنذاك كان عقله ما زال رهين “المتصرّفية”. وذلك حين استدعته “الجبهة اللبنانية” قبل عام 1982 إلى اجتماع “سيّدة البير” للوقوف على رأيه العسكري والسياسي، فكان ردّه أن “أعطوا وليد جنبلاط ضعف ما يطلبه، فنحن والدروز على سويّة في المصير، فإن ضعفوا ضعفنا وإن ازدادوا قوّة ازددنا”. هذا الاستثناء لم يلغِ بقاء عون لاحقاً ضابطاً مرابطاً عند الجبهة على الضدّ من جيش التحرير الشعبي الدرزي. لكنّه لم يصعد إلى الجبل قاتلاً بدعوى حماية المسيحيين.
الجبل كل لبنان
بالنسبة إلى جنبلاط معايير المقاربات السياسية غير ذلك تماماً. الجبل بالنسبة إليه كلّ لبنان. هو لا يرى جمهورية الأرز إلا بعيون الجبل. البرهنة على ذلك كانت في منتدى الطائف 33 الذي نظّمته السفارة السعودية في الأونيسكو على مبعدة شهرين. في الاحتفال، أعاد جنبلاط تنسيب ما يمثّل ومن يمثّل إلى “وثيقة الوفاق الوطني” من خلال الاشتباك مع “المسيحية السياسية” المسلّحة التي أصلته أيضاً حرباً كحروبه عليها. خطابه في هذا السياق كان منذ إسقاط جبهة سوق الغرب التي يقودها عون. أساساً في التاريخ الحديث لجنبلاط، منذ أُلبس عباءة والده كمال جنبلاط، يقرأ التاريخ بين حدّي فتح طريق دمشق واقتحام جبهة سوق الغرب وما كانت تمثّله في المعادلة الدولية الحاكمة للفصل الديمغرافي بين الطوائف.
تاريخ العلاقة بين جنبلاط وعون، واستطراداً باسيل، لم يكن يوماً على استقرار. بقيت العلاقة على هذرٍ مُقيم بين الطرفين. كلاهما كانا يعودان إلى الماضي، قريبه وبعيده. في أحسن الأحوال اتّسمت بالمساكنة. حتى في الحكومات التي اشتركوا فيها لم توجد بينهما قواسم مشتركة. أفضل ما كانا يسجّلانه “التوافق” على مواضيع بعينها ومحدّدة بذاتها.
حتى المبادرات التي ساقها جنبلاط نحو عون يوم كان الأخير رئيس كتلة نيابية كانت لها أسبابها الجنبلاطية وجوهرها “الثقل السياسي والشعبي” الذي كان لرئيس “كتلة الإصلاح والتغيير”. المُفارقة أنّه في مطلع عام 2015، ومن دون مقدّمات، ارتأى جنبلاط أنّ “عون تعرّض للظلم في السياسة”، وأنّه جرى تهميشه. كان ذلك مفاجأة غير متوقّعة آنذاك، ثمّ اتّضح أنّ سرّها كان في الحاجة إلى ما يمثّل عون لإعادة تفعيل عملَيْ البرلمان والحكومة. هذه هي المرّة الوحيدة التي كانت من دون متعلّقات بأوضاع الجبل.
تاريخ العلاقة بين جنبلاط وعون، واستطراداً باسيل، لم يكن يوماً على استقرار
الدروز وأجراس الكنائس
في محطّات الخلاف الكثيرة بين جنبلاط وعون يُنسب إلى الأوّل استعادته مقولة للشيخ وحيد بلعوس: “يا فوق الأرض بكرامة، يا تحت الأرض بكرامة”. جاء ذلك ردّاً على وساطات لجمعه مع عون الرئيس وإثر قدّاس دير القمر وارتفاع منسوب التوتّر بين المسيحيين والدروز الذي راحت تغذّيه صفحة إلكترونية باسم “إذاعة الشوف المسيحية” مُسهبةً في الحديث عن أجراس الكنائس. حدث ذلك في ذروة التوتّر مشفوعاً بحادثة قبرشمون التي بعثت الأموات من قبورهم.
ما حصل بين الرجلين وورثه باسيل منذ ثمانينيّات القرن الماضي إلى اليوم يشي بأنّ مسافة التباعد واستحالة التلاقي بين الرجلين هي مثلها مثل القطبين الشمالي والجنوبي. حاول الطرفان كثيراً افتعال التقارب الذي كانت تدفع باتجاهه كريمة زعيم المختارة داليا جنبلاط الضاهر، لكنّ الكيمياء السياسية بينهما مفقودة كافتقاد لبنان لمعنى الدولة.
يتعاطى جنبلاط الآن مع “العونيّة” بعدما فقدت توقيعها إثر انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. وجبران باسيل يقع في هذه الخانة مع “آثار” حكومية سابقة وراهنة تركت بصماتها عميقاً في العلاقة. لا يطرد اللقاء من المشهد السياسي خلافات جوهرية قائمة، والأرجح أنّها قد تستمرّ وتتمثّل في قانون الانتخابات النيابية. جنبلاط يريد العودة إلى ما صار يُعرف بـ”قانون الستّين”. أمّا باسيل فلا شيء يقنعه بالفكاك عن القانون الحالي. بين هذا وذاك هناك استحقاق الانتخابات الرئاسية.
إقرأ أيضاً: “لقاء المصلحة”: جبران يحاول فك عزلته!
هذان التاريخ والعلاقة بين الطرفين قد يعنيان أنّ الاجتماع يمكنه ضبط التوتّر المقيم بين الاثنين تاريخياً، لكنّه لا يُلغي الجهوزيّة للاشتباك مجدّداً متى تعلّقت الأمور بالخيارات السياسية. فإذا سُئل جبران باسيل في مؤتمر صحافي هل وليد جنبلاط من ضمن “الفاسدين”، فماذا سيكون ردّه؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: Jezzini_ayman@