يدور حديث عن مبادرة روسيّة للتقريب بين أنقرة ودمشق تشمل فتح طريقٍ أمام قمّة تجمع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ورأس النظام السوري بشار الأسد برعاية موسكو، وعن رفض أنقرة المقترحات الأميركية المتعلّقة بشمال شرق سوريا، وتمسّك واشنطن بحماية حليفها الكردي.
في العلن يبرز حديث عن مطالب وشروط مسبقة متبادلة تضعها أنقرة ودمشق قبل الذهاب إلى طاولة الحوار. لكنّ الصورة التذكارية الجديدة المرتقبة والضرورات الروسية للوصول إلى عقد القمّة كفيلة بتبديد العراقيل والمواقف المستعصية. وعلى الرغم من الصعوبة النظريّة التي تمنع جمع إردوغان والأسد إلى طاولة بعد كلّ ما قيل وجرى، يمكن عمليّاً تحقيق ذلك ما دامت حسابات “خطّ الرجعة” تتراجع أهميّتها في قواعد العلاقات بين الدول والقيادات، وكلام الليل يمحوه النهار في السياسة.
مخارج روسيّة لـ”قسد”
3 عوامل أدّت إلى أن تنجح محاولات تركيا لتغيير مسار لعبة التوازنات. تلك اللعبة التي تركت أنقرة وحيدة في مواجهة قوى ألزمتها بمنصّة الآستانة وبتفاهمات سوتشي التركيّة – الروسيّة:
– التدخّل العسكري الروسيّ والإيرانيّ لدعم النظام في دمشق.
– تراجع دور العواصم العربية والغربية في التعامل مع الأزمة السورية.
– حصر واشنطن هدفها بدعم قوات سوريا الديمقراطية بذريعة محاربة تنظيم داعش.
يشكّل إعلان وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو أنّ بلاده مستعدّة للتعاون مع النظام السوري لمكافحة الإرهاب وإعادة السوريين إلى بلدهم في حال تصرّف النظام بواقعية، ردّاً سريعاً يؤكّد التفاهمات التركية – الروسية المسبقة على كلّ هذه التفاصيل
أمّا المستفيد الأكبر من تقارب أنقرة ودمشق فهو اللاعب الروسي. وهدف بوتين هو الردّ على مواقف الرئيس الأميركي جو بايدن، الداعية إلى إزاحة إردوغان وحزبه عن السلطة، والحؤول دون ذلك من خلال إغراء إردوغان بالتفاهم مع دمشق.
هنا لا بدّ من الأسئلة التالية:
– هل بمقدور الأسد أو غيره الوقوف في وجه هذا المسار؟
– هل تكون هديّة بوتين لإردوغان هي انسحابه السريع والمبكر من سوريا، بعد ضمان التقارب بين أنقرة ودمشق؟
– كيف تضمن أنقرة أنّ إيران وأميركا تلتزمان بقرارات الانفتاح والتطبيع التركي السوري؟
– هل تشمل التفاهمات واشنطن أيضاً فتعطي هذه الأخيرة الضوء الأخضر لتقارب سياسي تركي – سوري، مقابل إزاحة إيران وانسحاب روسيا من المشهد هناك؟
– ما الذي تجنيه واشنطن من قوات سوريا الديمقراطية؟ وهل تتخلّى عنها نتيجة تفاهم أنقرة ودمشق؟
إذاً المسألة أبعد من تحليل بثينة شعبان مستشارة بشار الأسد التي تقول إنّ إردوغان يريد فقط إغاظة الأميركيين أو الضغط عليهم لتحقيق مكاسب على الأرض السورية.
إنّ التفاهمات التركية – الروسيّة في سوريا تُلزم “قسد” بقبول الخروج من ورطتها بأقلّ الخسائر والأضرار: ابتعادها عن المناطق الحدودية والقطع مع حزب العمال والالتزام بحدود اللعبة في الداخل السوري، وإعادة السلاح الأميركي لأصحابه وتسهيل بناء المنطقة العازلة التي تعيد مئات آلاف اللاجئين من الداخل التركي إلى أراضيهم. وهذا الخيار معقول ووحيد أمام “قسد”، وإلا فستدفع ثمن تمسّكها بالورقة الأميركية المكلفة، كما تقول أنقرة وتريد.
تركيا والسيناريو الروسيّ
يشكّل إعلان وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو أنّ بلاده مستعدّة للتعاون مع النظام السوري لمكافحة الإرهاب وإعادة السوريين إلى بلدهم في حال تصرّف النظام بواقعية، ردّاً سريعاً يؤكّد التفاهمات التركية – الروسية المسبقة على كلّ هذه التفاصيل.
فهل يعني ذلك تراجع الطموح التركي إلى عقد طاولة ثلاثية تجمع القيادات الأميركية والروسية والتركية، وأنّ السيناريو الروسي الذي يتضمّن التقريب بين إردوغان والأسد هو البديل والأقرب إلى الإنجاز؟
هذا صحيح على ما يبدو.
للدوحة حصّتها في تحوّلات سياسة أنقرة الإقليمية على خطّ “دبلوماسية تصفير المشاكل” التركية. لذلك بذلت الدوحة جهوداً سياسية ودبلوماسية إضافية للتقريب بين تركيا وبعض العواصم العربية بعد المصالحة الخليجية – الخليجية
أبرز شروط دمشق هو انسحاب القوات التركية من شمال سوريا. ستدخل موسكو على الخطّ للقول إنّ المسألة مرتبطة بانسحاب كلّ القوات والميليشيات التي دخلت سوريا من دون موافقة دمشق، لكن لا حاجة إلى تمسّك النظام السوري بهذا المطلب الصعب تحقيقه في هذه الآونة. فهل يعني ذلك أنّ إردوغان سيتمكّن من تعويض الفرصة السوريّة التي أضاعها في عامَيْ 2011 و2012؟
لا بالتأكيد، لأنّ الأجواء والظروف والمعطيات قبل عقد من الزمن هي غير تلك التي تسود اليوم.
لكن لماذا تنفتح أنقرة على النظام في دمشق؟
هناك أسباب كثيرة أهمّها:
– وصول سياستها السورية إلى طريق مسدود بعد تعقيدات المشهد السوري وغزارة التدخّلات الإقليمية في الملفّ.
– خيبة أمل تركيّة حيال أميركا والعواصم الغربية التي تراجعت عن سياساتها السورية قبل عقد وتركت أنقرة وحدها في مواجهة موسكو وطهران.
– ارتدادات المشهد السوري على الداخل التركي في أكثر من مكان وتحوُّله إلى امتحان سياسي وشعبي صعب لحزب العدالة والتنمية.
– تراجع تركيا عمّا تريده في سوريا من دون تفاهمات ولا مقايضات ولا تنازلات متبادلة لا مهرب منها بين اللاعبين المؤثّرين في الملف.
– القمّة التركية – السورية بوساطة روسيّة خطوة قد تدعمها العديد من العواصم الإقليمية، خصوصاً إذا ما كانت طهران هي الخاسر الأوّل فيها. فلماذا تعرقلها واشنطن إذا ما وجدت نفسها أمام لعبة المقايضة بين ورقة “قسد” في سوريا وبين خيار إضعاف إيران إقليمياً عبر إزاحتها سوريّاً؟
تساؤلات أمام تركيا
– هل من الممكن الربط بين احتمال تراجع أنقرة عن عمليّتها العسكرية الخامسة في شمال سوريا وبين أن يكون ثمن ذلك لقاءً منفتحاً على أكثر من سيناريو بين الرئيس التركي إردوغان ورأس النظام السوري بشّار الأسد؟
– لكن لماذا لا يكون العكس هو الصحيح: عملية عسكرية تركية تخدم مصالح أكثر من طرف في سوريا، ما دامت ستضعف مجموعات “قسد” وتقطع الطريق على مشروعها السياسي، وتدفع أميركا إلى مراجعة سياسة تحالفاتها المحلية والإقليمية في سوريا أو تخسر الرهان؟
– هل من الممكن وضع مطلب مراجعة تركيا لسياستها السورية من قبل عواصم عربية، فاعلة مثل القاهرة والرياض وأبو ظبي، على مسافة واحدة مع مطلب لقاء القمّة بين إردوغان والأسد الذي تريده وتشجّع عليه موسكو وطهران؟ أم ما زالت هذه العواصم تفصل بين مطالبة تركيا بسياسة سورية جديدة وبين ضرورة أو شرط تحسين علاقاتها مع دمشق؟
رحّبت قطر بالمصالحات التركية العربية والتركية الخليجية التي لعبت دوراً إيجابياً في تفعيلها عند اللزوم، وكانت آخِرتها تلك التي جمعت إردوغان والسيسي وبينهما الشيخ تميم في الدوحة في افتتاح المونديال. لكن كيف ستتعامل قطر مع لقاء قد يجمع قريباً إردوغان والأسد؟
ستكون التفاهمات بين أنقرة والنظام في دمشق مرتبطة بالمقايضات والتنازلات التي ستتوسّط موسكو بشأنها. العقبة الأبرز بالنسبة إلى تركيا هي شكل ومسار علاقتها مع حليفين أساسيّين في الملفّ: قطر وقوى المعارضة السورية التي دعمتها وفتحت الطريق أمامها لسنوات. كيف سيكون موقف الدوحة، شريك تركيا منذ سنوات، في ملفّات ثنائية وإقليمية كثيرة وبينها الملف السوري؟
حصّة الدوحة
للدوحة حصّتها في تحوّلات سياسة أنقرة الإقليمية على خطّ “دبلوماسية تصفير المشاكل” التركية. لذلك بذلت الدوحة جهوداً سياسية ودبلوماسية إضافية للتقريب بين تركيا وبعض العواصم العربية بعد المصالحة الخليجية – الخليجية.
من الصعب إدارة الوجه عن مسار ومصير التنسيق التركي – القطري في سوريا بعد قرارات أنقرة المتعارضة مع روح التفاهمات التركية – القطرية في الملف السوري. الدوحة كما يبدو حتى الآن لن تكون بالضرورة شريكاً في التحوُّل الحاصل، وهي قد لا تحاول إقناع قوى المعارضة السورية بفوائد ما تفعله قيادات حزب العدالة والتنمية. ولا تحاول أيضاً توحيد الطرق الفرعية في اتجاه طريق رئيسي يجمع إردوغان والأسد حول طاولة مجهولة الملفّات والنتائج.
إقرأ أيضاً: تنافس أميركيّ روسيّ لكسب أنقرة
فما الذي ستفعله قطر؟
قد لا يهمّ قطر أن يتطلّع إردوغان وحزبه إلى أن يسحبا من المعارضة التركية أوراقاً سياسية مؤثّرة في الملف السوري قادرة على التأثير في نتائج الانتخابات المقبلة كما حدث في الانتخابات المحلية قبل 3 أعوام. تعرف الدوحة استحالة قبول تركيا بأن يعود كلّ شيء إلى ما كان عليه وأن تواصل أنقرة تحمُّل أعباء الملف السوري وارتداداته بعد الآن. فهل تختار طريق مطالبة إردوغان وحزبه بعدم تسريع موعد اللقاء مع الأسد وتركه إلى ما بعد الانتخابات التركية ونتائجها التي قد تساعد الكثير من الدول والعواصم على إعادة رسم سياساتها ومواقفها؟