بيروت: ازدهرت في قرن النكبات… وانفجرت بعده

مدة القراءة 8 د

لم يكن الكيان السياسي اللبناني ودولته الحديثة ليتحقّقا لو لم تتوافر لهما عاصمة مزدهرة تتوسّط ساحله، وتشكّل قطباً جاذباً لسكّان مناطقه الداخلية: بيروت التي كانت تستعدّ وتتأهّل، بلا قصد، لهذا الدور طوال القرن التاسع عشر. لم تكن طرابلس بموقعها في أقصى شمال لبنان، أو صيدا أو جبيل أو بيت الدين أو دير القمر أو بعبدا أو المتن، لتتمكّن وتنفع في أن تصير عاصمة.

 

المدينة الوارثة واغتيالها

ليس هذا بسبب طبيعة أهل بيروت مقارنة بأهل صيدا، على ما ذهب إليه سامي الصلح في مطلع كتابه “صفحات مجيدة من تاريخ لبنان”. والأرجح أنّ مساحة بيروت، موقعها وشكلها وطبيعتها الجغرافية التي أتاحت إنشاء مرفأ مميّز على شاطئها، لا تكفي وحدها لتكون عاصمة لبنان، لولا المساحات الواسعة التي كانت شبه خالية من البشر أو السكّان، وتحوط بها من الجهات كلّها.

هكذا نظر إلى بيروت القديمة مؤسّس حداثتها إبراهيم محمد علي باشا، حاكم مصر، الذي فتحها سنة 1830، وحاول الوصول إلى الأستانة، عاصمة الإمبراطورية العثمانية المتعبة والمتهاوية.

كانت بيروتنا في جامعة بيروت العربية الناصريّة المولد، بيتنا، أي “يوتوبيا المدينة العربية المثقّفة”

وهكذا أثنى الفرنسيون عليها، واعتبروها بديلاً يتفوّق حتى على الإسكندرية التي أُخرجوا منها قبل ثلاثة عقود من وصول إبراهيم باشا إلى بيروت، التي بدأت من منتصف القرن التاسع عشر ترث أهمّ المدن القريبة منها نسبيّاً. فهي ورثت حلب التي ساءت أحوالها بفعل تبدّل طرق التجارة وتطوّر الآلة، فانخفض عدد العمال فيها من مئة ألف في بداية القرن الـ19 إلى ألفين في نهايته. أمّا دمشق وعكّا وحيفا فكان على بيروت الانتظار حتى خمسينيّات القرن العشرين لترثها، بعد استعار الحروب في فلسطين، والانقلابات في سوريا. فتوافرت للّبنانيين فرحة لم تدُم طويلاً. فبعد نصف قرن من توسّع بيروت، المدينة الوارثة، ونهضتها وحداثتها وازدهارها، أي مع بداية العقد الأول من القرن الحالي إلى نهاية عقده الثاني (2005-2020)، اغتيلت بيروت بانفجارَيْ السان جورج والمرفأ.

كانت بيروت للبيروتيّين بيتهم، وللّاجئين خيمتهم، وللغرباء محطّتهم، وللحداثة في شرقيّ المتوسط عنوانها. فسبحان الحيّ الباقي.

 

الأميركيّة ومسيحيّو الشرق

لعبت الكلّية الإنجيليّة السورية في حيّ الطنطاس (الاسم القديم لموقعها الحالي) الدور الأساسي في هذه العمليّة كلّها. فروح بيروت لم يكن المرفأ ولا سواه، بل وريثة مدرسة الحقوق الرومانية، أي الجامعة الأميركية في بيروت.

كانت “الأميركية”، كما يحلو لأهل رأس بيروت تسميتها، مركز جذب المسيحيين الأرثوذكس والبروتستانت والمتحوّلين من الأرثوذكسية والكاثوليكية إلى البروتستانتية في المنطقة كلّها، وإعادة تصديرهم إلى مصر والسودان والعراق والجزيرة العربية. فبين طلاب “الأميركية” نبتت أهمّ فكرتين في القرن العشرين في هذا المشرق: القوميّة السورية والقوميّة العربية. وفيها تلبننت الفكرة الأولى، وازدهرت الفكرة الثانية وذوت. ومنها فُتحت طريق اللبنانيين إلى الخليج عبر الكويت بواسطة هارولد ريتشارديكسون، ابن القنصل البريطاني في بيروت 1959 – 1881)).

بعد “الأميركية” أُسّست الجامعة اليسوعية وبرز الأب لويس شيخو ومجلّته “المشرق” ومقالاته في عشرينيات القرن الماضي: “السرّ المصون في شريعة الفرميسون” (الصيدلة والطب). وكانت اليسوعية على طريق الشام، بكلّيّتَيْها للحقوق والطب، الممرّ الإلزامي للفرنسة وللمؤسّسة العسكرية اللبنانية وللقيادات المارونية عامّة.

 

فرسان الرمول الثلاثة

في 1905 نشبت معارك بين أهالي الأحياء أثناء مدّ طريق البسطة إلى منطقة الرمول في الطريق الجديدة اليوم، لربطها ببيروت. فتدخّلت في تلك المعارك الأهليّة القنصليّات الأجنبية و”قوّاصوها”، أي عناصرها الأمنيّة. واستدعت أيضاً تدخّلاً من الباب العالي العثماني الذي أوعز إلى ممثّل ولاية بيروت العثمانية (كانت مساحتها 33 ألف كلم مربّع وتمتدّ من الإسكندرون على طول الساحل المتوسطي وصولاً إلى عكّا وحيفا ونابلس) بلملمة الموضوع وفتح الطريق التي حاول منع فتحها مهجّرون من مذابح دمشق في 1860 واستوطنوا في منطقة المزرعة جنوبي بيروت في ستّينيات القرن 19. لكنّ الطريق فُتِحت.

من باطن بيروت التقليدية القديمة انتقل إلى منطقة الرمول هذه للسكن فيها ثلاثة ضبّاط في الجيش العثماني الرابع، وكانوا أعضاء في “جمعية العهد”، ورفضوا الانضمام إلى الشريف حسين في ثورته ضدّ السلطنة العثمانية. وعُرِفوا محلّياً بـ”الفرسان الثلاثة”، وهم:

– راشد توفيق الحوري: كان والده أمين سرّ مرفأ بيروت، ورتبته آمر كتيبة مدفعية عثمانية، وأُسر شمال بغداد بعدما أُصيب. فاعتنى به ريتشارديكسون المذكور أعلاه، وكان ضابط مخابرات في الجيش البريطاني، فحوَّل الحوري إلى الهند، ومنها إلى معسكر الهسكاب في مصر.

– محمد جميل الروّاس: مسؤول التصنيع الحربي في الجيش الرابع، وخرّيج ألمانيا.

– مصطفى الرافعي: صيدلي خرّيج إسطنبول ومسؤول المستشفى العسكري في الجيش الرابع في بيروت، وكان منزله في محلّة برج أبي حيدر.

هو قرن كامل من النكبات المستدامة حلّت على الولايات العربية العثمانية الشمالية سابقاً، وعلى مدننا العربية كلّها، ومنها طبعاً بيروت التي قُتِلت بانفجارَيْ السان جورج والمرفأ

البرّ والإحسان للتعليم

عزل هؤلاء الضبّاط الثلاثة أنفسهم في الطريق الجديدة وأسّسوا جمعية مرخّصة سمّوها “جمعيّة البرّ والإحسان”، أعضاؤها من قدامى البيارتة في الجيش الرابع. وبنوا مسجد الإمام علي، وانصرفوا إلى فتح مدارس للتعليم بتغطية سياسية من مفتي بيروت والزعيم رياض الصلح. وقرّروا بناء مدرسة لتعليم البنات تحمل اسم “مدرسة البرّ والإحسان”. أشار عليهم الشيخ المصري مبعوث الأزهر في بيروت فهيم أبو عبي ببناء جامعة تكون مدعومة من مصر جمال عبد الناصر.

نقل الشيخ أبو عبي طلبهم إلى السفير المصري في بيروت. لكنّ الردّ جاء من القاهرة: بيروت ليست بحاجة إلى جامعة. وكان وليّ عهد المملكة العربية السعودية ومليكها بعد وفاة المغفور له عبد العزيز، يتردّد كلّ صيف على بيروت. ويوم افتتح “خليّة المزرعة”، المعروفة باسم “الخليّة السعودية”، تقاطرت الجمعيّات الأهليّة للسلام عليه، فالتقى الفرسان الثلاثة بالملك سعود ضمن تلك الوفود.

 

جامعة بيروت العربيّة وثورة 58

صبيحة اليوم الثاني زارهم الشيخ أبو عبي، فتفتّق ذهنة عن حيلة مفادها أن يُشيعوا بين الأهلين أنّ الملك سعود سيبني الجامعة. وأسرع أبو عبي إلى السفير المصري عبد الحميد غالب، زاعماً أنّ “جمعية البرّ والإحسان” اتّفقت مع الملك سعود على بناء الجامعة، فورد خلال يومين جوابٌ من القاهرة أن يحضر الفرسان الثلاثة فوراً إلى العاصمة المصرية للقاء عضو مجلس قيادة الثورة الناصرية أنور السادات.

هكذا نشأت جامعة بيروت العربية، وتحوّل المال من القاهرة إلى بنك مصر ببيروت باسم الجمعية، وابتدأت الأعمال، وكان في مقدَّمها تسديد ثمن أرض الجامعة وما حولها لهنري فرعون، بعدما كانت قديماً وقفاً للإمام الأوزاعي. وحين بدأ زمن الانتداب الفرنسي، عيّنت سلطاته ضابطاً فرنسياً (صار يدعى في بيروت المستر فرنسوا) مديراً لإدارة الأوقاف، فأعلن فرنسوا إسلامه وتزوّج سيّدة طرابلسية ووزّع أراضي الوقف على أصحابه.

استُخدم المال المحوَّل من مصر لتمويل ثورة 58. وبعد انتهاء الثورة أرسلت مصر مجدّداً المال المسحوب من حساب الجمعية (المصدر: روايات شفهية رواها الحاج توفيق راشد الحوري لكاتب هذه السطور، الذي يعرفه منذ أواخر ستينيات القرن الماضي حين كان طالباً في جامعة بيروت العربية).

ولِمَن لا يعلم كان الدكتور توفيق رئيسَ اتّحاد الطلبة المسلمين في بريطانيا حين درس فيها، وعلى علاقة وثيقة بالحاج أمين الحسيني، وصهر عمر الداعوق مؤسّس جماعة عبّاد الرحمن. وهو ناشر مجلّة “فلسطيننا” التي توقّفت عن الصدور سنة 1965، بعد صدور البلاغ الأوّل لـ”قوات العاصفة: حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح”.

كانت “فلسطيننا” تطبع في بيروت 2,000 نسخة، تُرسل 1,500 منها إلى الكويت  والـ500 الباقية إلى المخيّمات الفلسطينية في بيروت بواسطة محاسب يعمل مع الحاج توفيق في محلّه لبيع أجهزة الراديو وما شابه.

 

قرن من النكبات

كانت بيروتنا في جامعة بيروت العربية الناصريّة المولد، بيتنا، أي “يوتوبيا المدينة العربية المثقّفة”، على توصيف الكاتبة والناقدة خالدة سعيد، زوجة الشاعر أدونيس. فهي مدينة مجلّة “الآداب” العروبية التي أسّسها سهيل إدريس، ومجلّة “شعر” التي أسّسها يوسف الخال، وأصبحت مجلّة الحداثة وتطوير الشعر العربي، وأيضاً مجلّة “حوار” لمؤسّسها توفيق عبدالله صايغ، الموصوفة بأنّها لجماعة “رودوس” وتوقّفت عن الصدور قبل شهر من هزيمة حزيران 1967، وقد نُشرت مذكّرات توفيق صايغ عن تأسيس المجلّة بواسطة الكاتب الفلسطيني محمود شريح.

من بيروتنا “بيت بيوتنا” العروبيّ الفلسطينيّ كنّا ننشد في الستّينيات والسبعينيات مع الشاعر القومي السوري السابق المتحوّل إلى القومية العربية خليل حاوي، والمنتحر في رأس بيروت أو حيّ الجامعة الأميركية أثناء اجتياح الجيش الإسرائيلي لبيروت صيف 1982:

إقرأ أيضاً: قراءة تاريخية جديدة لبيروت: من الإسلام.. إلى فرنسا

“يعبرون الجسر في الصبح خفافاً

أضلعي امتدّت لهم جسراً وطيد

من مستنقع الشرق

إلى الشرق الجديد…

أضلعي امتدّت لهم جسراً وطيد”.

هو قرن كامل من النكبات المستدامة حلّت على الولايات العربية العثمانية الشمالية سابقاً، وعلى مدننا العربية كلّها، ومنها طبعاً بيروت التي قُتِلت بانفجارَيْ السان جورج والمرفأ.

 

مواضيع ذات صلة

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…

90 عاماً من فيروز: صوت تاريخنا… ولحن الجغرافيا

اليوم نكمل تسعين سنةً من العمر، من الإبداع، من الوطن، من الوجود، من فيروز. اليوم نحتفل بفيروز، بأنفسنا، بلبنان، وبالأغنية. اليوم يكمل لبنان تسعين سنةً…