قراءة تاريخية جديدة لبيروت: من الإسلام.. إلى فرنسا

مدة القراءة 7 د

بيروتنا هي ابنة الجيولوجيا والجغرافيا، وهي هضبة منخفضة مثلّثة الأضلاع على شكل لسان يتوسّط الشريط الساحلي الضيّق لسلسلة جبال لبنان الغربية المنتصبة على حدود قارّة آسيا الغربية، وعلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية، المفتوحة عبر مضيقَيْ جبل طارق والبوسفور وقناة السويس الاصطناعية.

 

الأمس الذي كان

تتشكّل جغرافيا بيروتنا من التلال التي تقطعها من الشمال إلى الجنوب، وتلتقي حولها في محيط المرفأ عند باطن بيروت القديمة، ثمّ ترتفع صعوداً حادّاً إلى الأشرفية والبسطة وبرج أبي حيدر والمصيطبة وعائشة بكار. وهي تمتدّ جنوباً هبوطاً إلى حرش صنوبر كان يطوّقها، ثمّ تستمرّ سهلاً ساحليّاً يصل إلى خلدة. يتميّز اللسان البيروتي بامتداده من خليج مار جرجس إلى رأس الخضر ومسجد الخضر عند الزاوية الشرقية لربوة الكرنتينا، فالمرفأ غرباً، ومحاذاته كعباً صخرياً اسمه رأس بيروت يتصدّر من منارتها على شمال شريط بيروت الغربي، ثمّ التفافه صعوداً إلى صخرة الروشة، ثمّ هبوطاً على ذلك الشاطئ الرملي الممتدّ جنوباً إلى مقام الإمام الأوزاعي فخلدة.

بيروتنا خليج، ومرفأ، ورأس يتحدّى البحر، ومنارة، وصخرة مميّزة. مقام الإمام الأوزاعي جنوبها. وحرش صنوبر كان كثيفاً ملتفّاً من نهرها إلى مار إلياس جنوبي بيروت. كانت بيروتنا ينابيع مياه حلوة عذبة باردة تنساب من الجبل على عمق بسيط بين ربوتَيْ الأشرفية والمصيطبة هابطة إلى البحر في محاذاة سورها القديم، وتُعرف منطقتها باسم رأس النبع.

هذه الدولة العالمية التي بلغت مساحتها 6.5 ملايين كلم مربّع بتعداد 170.5 مليون نسمة، سوف تنزل من المرتبة الأولى إلى الرابعة بعد “سنوات المصيبة” من دون مرورها بالمرتبتين الثانية والثالثة

إلى منتصف القرن الماضي كانت بيروتنا أرضَ شجرةٍ كريمة للطير والعصافير والبشر: شجرة الجمّيز. وبيروتنا شجرة زنزلخت تطرد الحشرات (البرغش) ومبيدة للعُثّ. كانت أرض صنوبر رمليّ تختلف جذوره عن جذور الصنوبر الصخري العموديّة لأنّ صلابة الأرض تمنع انفلاشها. أخفى هذا الصنوبر الكثيف العسكر الفارّين من الجنديّة، وكان منتزهاً (حرش العيد) أيّام العطل والأعياد للبيارتة الذين يمضون نهارات صيفهم في ظلّه، ويدلّ دخّان المشاوي ورائحتها على مكان جلستهم. وأمّا خشب الصنوبر المميّز بأليافه الطويلة المرنة التي تمتصّ الصدمات فقد زوّد صناعة السفن وبناء أبراج بيروت، واستُخدمت جذوره في استخراج القطران الطبيعي. وعلى تلال بيروتنا، نُصبت في الشجيرات عرازيل خشبية تضمّ غرف نوم واسترخاء مهوّاة بكلّ نسيم عليل ورطب يهبّ في الصيف الحارّ.

يمتاز عصفور بيروت وحسّونها بـ”لغة” خاصّة به تختلف بالحسن و”السحبات” عن لغة حساسين حاصبيا ومرجعيون. كانت بيروتنا إلى بداية القرن الماضي دار توليد للسلاحف على رمالها البيضاء الناعمة. تتميّز هذه السلاحف بلحمها الطيّب، وينفع قفصها سريراً للأطفال الرضّع يُعلّق في سقف الدار أو على غصن شجيرة حِنّاء تفوح راحتها. بيروتنا تمرّ أسماك البوري بمحاذاتها أمواجاً مهاجرة من الشمال إلى الجنوب في كلّ خريف. فهي تهاجر كالطيور وكالناس المهاجرين الذين يمرّون ببيروت هرباً من استبداد مدن صحّرها المستولون عليها. وبيروت بحرها محميّ في شمالها من رياح عاتية جنوبية غربية، ومحميّة من رياح شرقية حارّة بسلسلتين جبليّتين خلفها.

ليست عاصمة إمبراطوريّات

هي إسكلة، وثغر، ورباط. بارومتر حركتها أنّها تنهض مع تضعضع محيطها، وتخبو حين ينهض، فترث في الحالة الأولى نظيراتها، وتدخل في غيبوبة في الحالة الثانية ثمّ تنهض بعدها. هي ليست عاصمة إمبراطوريّات، فلا هي دمشق، ولا هي بغداد، ولا قاهرة المعزّ. وليست مدينة مقدّسة، ولا ترث ولا تُورث ولا تموت، كالقدس أو المدينة ومكّة التي هي خطّ ومحور الملل الإبراهيمية الثلاث.

تعرّفت على بيروتنا مع فتح يزيد بن أبي سفيان لها. كانت مدينة منهكة من صراعات إمبراطوريّتين غربية وشرقية سابقة، ومن جيولوجيا تبتلع ماء بحرها فتسحبه أميالاً ثمّ يندفع فور إغلاق الفتحة أمواجاً عالية تطمرها حجراً وبشراً. هي دورة منتظمة تتكرّر، فتنقلب بين فيضان وحريق.

يذكر الإمام الذهبي في سِيَر أعلام النبلاء (قبل صالح بن يحيى التنوخيّ بقرن) أنّه حين توفّي الإمام الأوزاعي (157هـ/774م) نزيل بيروت، خرج في جنازته المسلمون في جهة، والأقباط في جهة، والنصارى في جهة، واليهود في جهة. هذه التركيبة السكّانية، وككلّ تركيبة إلى قرنين سابقين، كانت تُحاط بسور يسكن أهلها بداخله مع معابدهم، ويُترك خارجها لأمواتهم. فمَن سكن داخل السور عمل في مهن يفرضها الموقع والمكان من تجارة أو حرفة مربوطة بالمجتمع، بينما عمل مَن كان خارج السور بالزرع والرعي وقطع الطرق أيضاً.

عالم القرون الوسطى

في القرن الثاني عشر الميلادي تعرّض العالم المسيحي الغربي لهجومين: واحد من أقصى الشرق في معركة ملاذ كرد 1071م، وثانٍ من أقصى الغرب في إسبانيا، فكان الردّ الأوروبي الكاثوليكي بالهجوم على قلب المنطقة، عبر حملات الفرنجة، (شارل عيساوي، تأمّلات في التاريخ العربي). هذه الحملات لم تستهدف المسلمين فقط، بل اجتاحت في طريقها “الهراطقة”، حسب فهمهم، ومعهم اليهود. ونتج عنها شبه تدمير للقسطنطينية أَذِن بسقوطها بعد قرنين أو ثلاثة. يذكر المؤرّخ التركي يلماز أوزتونا أنّه في حصار محمد الفاتح للقسطنطينية عرض البابا تقديم النجدة لها مقابل تحوُّلها إلى الكثلكة، وكان بطريركها موافقاً إلا أنّ قائد قوّاته رفض، وردّد عبارته: “أن أرى عمائم الترك فيها خيرٌ لي من أن أرى قلنسوات روما”.

هذه الانشقاقات المركّبة من ثقافة ومفاهيم وذهنيّات وتنافس شهدنا مثلها الكثير. ففي 650هـ/1258م اجتاح هولاكو بغداد ضمن تحالف دولي شارك فيه أرمن وقوات من الموصل مسلمة سنّيّة تعدادها 25 ألفاً. وقد تلاها بعد نصف قرن هجوم مغوليّ آخر بقيادة شقجب استهدف دمشق في 703هـ/1303م وكان بمواكبة مسلمين من حلب وتماهى معه آخرون من طرابلس حوّلوا قبرص إلى سوق تعفيش يُباع فيه أسرى مسلمون من البقاع، فدفع هؤلاء المسلمون الثمن، بينما تعزّز وضع من وقف على الحياد، وهم نصارى وادي قنّوبين، فكوفئوا بتمدّد ديمغرافي إلى كسروان. نتج عن هزيمة المغول قيام دولة المماليك البحرية والبرجية التي ستتأثّر بها بيروت بعلاقات تجارية عبر مرفئها مع قبرص.

 

المصيبة ونهضة بيروت

استمرّ هذا الوضع إلى حين قيام ثلاث إمبراطوريات تركمانية، تُعرف بإمبراطوريات المدافع: العثمانية والصفوية والتيمورية. تأثّرت بيروت مباشرة بالأولى، وخصوصاً بُعيد معركة مرج دابق عام 1516م التي جعلت الدولة العثمانية الدولة الأولى عالمياً، تلتها الدولة الصفوية، فالدولة التيمورية. أتى التفوّق العثماني ثمرة مفاهيم ثقافية. فسليم الأوّل كان حنفيّاً سنّيّاً ومولويّاً مؤمناً بوحدة الوجود بارعاً في الرياضيات والفيزياء والكيمياء، وشاعراً باللغتين التركية والعربية، ووريث تصنيع عثماني متقدّم على العالم في آليّات السيطرة بالمدافع الحلزونية وصناعة السفن، سفن المجاذيف.

إقرأ أيضاً: متحف نابو: أول صور نادرة لبيروت تؤرخ عمرانها

هذه الدولة العالمية التي بلغت مساحتها 6.5 ملايين كلم مربّع بتعداد 170.5 مليون نسمة، سوف تنزل من المرتبة الأولى إلى الرابعة بعد “سنوات المصيبة” من دون مرورها بالمرتبتين الثانية والثالثة، بينما قفزت بريطانيا إلى الأولى متجاوزة فرنسا من دون تدرُّج. استفادت بيروت من ذلك، فبدأ تاريخها المعاصر في عام 1832، واستمرّ إلى حين دخولها غيبوبتها المعاصرة بين تفجيرين.

 

غداً: بيروت بين تفجيرَيْ السان جورج والمرفأ 

مواضيع ذات صلة

“أرض الوهم” لكارلوس شاهين يُكرَّم كأفضل فيلم لبنانيّ

أخيراً، نال الفيلم اللبناني “أرض الوهم” لكارلوس شاهين حقّه في التكريم في بلده، حاصداً جائزة “موريكس دور” كأفضل فيلم لبناني، بعد نيله جائزة سعد الدين…

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…