هل كسر جبران باسيل الرتابة السياسية في البلد، أو بالأحرى هل فتح اللعبة السياسية المقفلة حتّى الآن بإحكام؟
الأكيد أنّ “تمرّد” باسيل على حزب الله يدفع إلى مراجعة قواعد اللعبة السياسية التي يحدّدها الحزب بشكل رئيسي وإمكانات تعديلها.
يذكّر الخلاف بين باسيل وحزب الله بالمرحلة المتأخّرة من الحرب الأهلية، أي النصف الثاني من الثمانينيّات، حين انتقل الصراع من مستوى التقاتل عبر خطوط التماس بين جبهتَيْ الحرب التقليديّتين إلى مستوى الاقتتال بين أفرقاء الجبهة الواحدة. حينذاك استقرّ الصراع الكبير عند حدود ما عاد في إمكان أيّ من أطرافه تخطّيها فاندلعت صراعات أصغر من أجل رسم حدود النفوذ داخل منطقتَيْ الاقتتال الأهلي.
شيء شبيه يحصل الآن وإن من الناحية السياسية. فقد فتح انتهاء الصراع الكبير بين فريقَيْ 8 و14 آذار، أو على الأقلّ ضياع ملامحه، الباب أمام صراعات داخل الفريق الواحد وبأشكال مختلفة بين الفريقين. فإذا كان الصراع صامتاً أو موارباً ضمن 14 آذار باعتبار أنّ هزيمة هذا الفريق ككلّ تدفع أطرافه إلى كتم صراعهم والالتفاف عليه وإلا فاقموا من هزيمتهم وفضحوا حجم أدوارهم ضمن اللعبة السياسية، فإنّ الصراع داخل 8 آذار، وبالتحديد بين حزب الله والتيار الوطني الحر، يأخذ أشكالاً علنيّة لأنّ كتم هذا الصراع من جانب الطرف الأضعف، أي التيار العوني، يُضعفه أكثر بإزاء الطرف الأقوى، أي الحزب. والأخير كما “كبير العائلة” الذي يتفهّم هواجس أفرادها لكن ليس إلى الحدّ الذي يجعله يبدّل أولويّاته وفقاً لتلك الهواجس. وهي أولويّات لا يسمح لأحدٍ أصلاً بأن يشاركه في تحديدها.
يذكّر الخلاف بين باسيل وحزب الله بالمرحلة المتأخّرة من الحرب الأهلية، أي النصف الثاني من الثمانينيّات
الأخلاق مقابل السياسة
بهذا المعنى تصرّف باسيل وفق المنطق السياسي “الطبيعي” عندما شعر أنّ مصلحته السياسية مهدّدة من قبل الحزب. لكنّ تصرّفه هذا قوبل من ناحية الحزب بمنطق أخلاقويّ أبويّ، على قاعدة أنّ “الصَّادقين لم ينكُثوا بوعد” وأنّ “استخدام لغة التخوين والغدر تصرّف غير حكيم وغير لائق”، وأنّ خلافات الأصدقاء والحلفاء تُناقش “خلال اللقاءات الخاصة والمباشرة”، كما جاء في بيان الحزب.
يستبطن هذا الفائض الأخلاقويّ في أدبيّات الحزب تجاه حلفائه رغبةً في تأكيد هيمنته عليهم. إذ لا تفصح مساعيه إلى استيعابهم عن استعداد لتلبية مطالبهم بل عن محاولة لإعادتهم إلى بيت الطاعة، أي أنّ المنطق الأخلاقي للحزب هو ذو وظيفة سياسيّة، إذ يستخدمه لتطويع حلفائه، وبالتحديد التيار الوطني الحرّ الذي سبق أن أسبغ على عقده السياسي مع حزب الله صفات أخلاقية ووجدانية يستخدمها الحزب ضدّه في المحطّات المفصليّة بينهما. حتّى إن باسيل نفسه أصبح أسير لعبة الحزب هذه. فهو ما إن يقدّم المنطق السياسي في إدارة علاقته مع الحزب حتى يعود للغرف من مفردات قاموسه الأخلاقي كـ”الغدر” و”الطعن في الظهر”، وهو ما يوقعه في شرك الحزب الذي يفرض على حلفائه التعاطي معه بوصفه مرجعية أخلاقية لا يمكن لأحد المسّ بها، فكيف من جانب شخص متّهم، شعبياً، بالفساد؟!
لعلّ انتصار الحزب أخلاقياً على باسيل هو توطئة لانتصاره عليه سياسياً، وهذه معادلة لم يجرؤ باسيل على كسرها بعد أو هو لا يمتلك الأدوات الكافية لكسرها الآن. غير أنّ ذلك لا يعني أنّ باسيل لم يصبح أكثر جرأة في تحدّي الحزب، أو بالأحرى ظرفه السياسي يجعله مضطرّاً إلى تحدّيه، أي للتمرّد على منطق “النقاش الداخلي”، خصوصاً عندما يطيح الحزب بأولويّات التيار، وإلّا خسر شعبياً وسياسياً.
من الصعب القول إنّ باسيل كسر الرتابة السياسية في البلد وفتح اللعبة السياسية على احتمالات جديدة، حتّى لو استحوذ مؤتمره الصحافي الأخير على كلّ هذا الاهتمام السياسي والإعلامي
اللعبة المقفلة
لكن على الرغم من “حيوية” باسيل تلك فإنّ الحزب ما يزال قادراً على إقفال اللعبة السياسية. فبعدما أقفلها مع خصومه في فريق 14 آذار بكلّ وسائل الترهيب والعنف، ولا سيّما في 7 أيار 2008، فها هو يقفلها الآن مع حلفائه، وبالتحديد التيار العوني، بالمنطق الأخلاقي. فليس المهمّ خطأ الحزب بحقّ أيّ من حلفائه بل خطأ أيّ منهم بحقّه، أو بالأحرى يُعتبَر انتقاد الحزب علناً خطأً يرتكبه مَن يقوم به ولو كان الحزب قد أخطأ بحقّ المنتقِد، إذ يصبح خطأ الحزب تفصيلاً أمام خطأ إخراج الخلاف من “الغرف المغلقة”، وهذه هيمنة مطلقة من قِبَل الحزب على حلفائه، وبطبيعة الحال لا تستبعد أيُّ هيمنة العنفَ.
لذلك من الصعب القول إنّ باسيل كسر الرتابة السياسية في البلد وفتح اللعبة السياسية على احتمالات جديدة، حتّى لو استحوذ مؤتمره الصحافي الأخير على كلّ هذا الاهتمام السياسي والإعلامي، وحتى لو بدا للوهلة الأولى أنّ السياسة ممكنة ضمن فريق 8 آذار. لكنّ الحقيقة أنّ السياسة غائبة بين فريقي 8 و14 آذار وداخل كلا الفريقين أو ما بقي منهما، وهو ما يفسّر الحالة الانتظارية التي يغرق فيها البلد باعتبار أنّ الأفق الداخلي مسدودٌ وأنّ اللعبة السياسية مقفلة بإحكام، ولذلك لا حلّ إلا بتدخّل دولي وإقليمي يضع حدّاً للأزمة بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية.
لكنّ هذه التسوية المنتظرة ستكرّس الواقع الحالي، أي أنّ اللعبة السياسية الداخلية ستبقى مقفلة لأنّ أيّاً من الأفرقاء لا يملك القدرة على تسجيل أيّ اختراق جدّي للستاتيكو القائم. وهو ما أكّدته أصلاً الانتخابات النيابية التي أعادت إنتاج هذا الستاتيكو المأزوم عوض أن تسقطه أو بالحدّ الأدنى أن تزعزعه.
حكومتا عون والحص
على الرغم من ذلك كلّه ليست “خطورة” موقف باسيل من الحزب وحكومة نجيب ميقاتي في الموقف ذاته بل في ما يمكن أن ينتجه هذا الموقف على الساحة السياسية ككلّ وليس ضمن فريق 8 آذار وحسب. فانطلاقاً من “الصيغة اللبنانية” يتحوّل موقف باسيل من تواطؤ الحزب وميقاتي على عقد اجتماع للحكومة إلى موقف مسيحي عامّ بمواجهة موقف إسلامي عامّ. فنصبح، بالإحالة إلى زمن الحرب، أمام مشهد شبيه بانقسام البلد في عام 1988 بين حكومتين: حكومة ميشال عون من جهة وحكومة سليم الحص من جهة ثانية. وهكذا يمكن أن يكون “عدم اعتراف” باسيل بحكومة ميقاتي شبيهاً من الناحية السياسية ومن ناحية “الصيغة” بعدم اعتراف الحص بحكومة عون، وفي الحالتين كان الفراغ الرئاسي سيّد الموقف!
لذلك تؤسّس الأشكال الجديدة، التي يتّخذها الصراع السياسي على وقع الفراغ في سدّة الرئاسة، لإدخال البلد جدّيّاً في انقسام سياسي إسلامي – مسيحي. وهذا يمكن أن يعيد إنتاج خريطة التحالفات، أي يعيد إنتاج السياسة، فاتحاً اللعبة السياسية على احتمالات خطيرة بدأت طلائعها بتلويح باسيل بتطبيق اللامركزية “على الأرض”، كما في زمن الحرب.
تزيد هذه التطوّرات من ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية ولو كان انتخابه تأجيلاً لاندلاع الأزمة الطائفية وليس حلّاً نهائياً لها بعدما أصبح الأداء الطائفي للقوى السياسية سبب ديمومتها. وهو أداء تفوّق فيه التيار والحزب إلى درجة أنّه أصبح العنوان الأهمّ لخلافهما واتفاقهما على السواء، ويشكّل أحد الوجوه الرئيسية للأزمة اللبنانية باعتبار أنّ اتفاق الطرفين يعمّق الأزمة الطائفية والمذهبية وافتراقهما ينقلها إلى مستويات أكثر خطورة.
كلّ ذلك عائدٌ بشكل رئيسي إلى قدرة الحزب على أسر اللعبة السياسية بإمساكه بالستاتيكو القائم الذي يبقيه الأقوى بين الضعفاء: فهو بعدما أضعف السُنّة بالتعاون مع التيار الوطني الحرّ، لا يتردّد الآن في إخضاع باسيل الذي يحاول في المقابل خلق توازن جديد مع الحزب بعد انتهاء ولاية عون.
إقرأ أيضاً: باسيل للحزب: فرنجيّة مقابل مار مخايل
السؤال هو: كيف يمكن كسر قواعد هذه اللعبة؟ يتبيّن يوماً بعد آخر أنّ كسرها يتطلّب “تغييراً” داخل الطوائف لا على المستوى “العابر للطوائف”، خصوصاً أنّ الحزب يرفض أيّ محاولة لإحياء السياسة وخلق مسارات سياسية جديدة، ولو اضطرّه ذلك إلى استخدام القوّة كما حصل بعد 14 آذار 2005 وبعد 17 تشرين 2019، أي أنّ مواجهة اللعبة الطائفية تبدأ بالتصدّي للقوى الطائفية داخل كلّ طائفة. وهذه مواجهة مركّبة لا تقتصر على السياسة وحسب، بل هي اجتماعية وثقافية أيضاً، وهذا مسار طويل وشاقّ ومعقّد لم يبدأ فعليّاً بعد.
لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@