كانت الزحمة خانقة في صالة “معرض بيروت العربي والدولي للكتاب” مساء الأحد الماضي في دورته الرابعة والستين، التي اختار منظّمو المعرض (النادي الثقافي العربي، اتحاد الناشرين اللبنانيين) عبارة “أنا أقرأ بتوقيت بيروت” عنواناً لها أو شعاراً.
وصبيحة الإثنين نشر الشاعر والصحافي عقل العويط في صحيفة “النهار” مقالة عن المعرض عنونها “إفرح يا قلبي”، مستعيراً عنوان رواية جديدة لعلوية صبح، بعدما وقّعتها في المعرض بعد ظهر الأحد المزدحم.
كانت الزحمة خانقة في صالة “معرض بيروت العربي والدولي للكتاب” مساء الأحد الماضي في دورته الرابعة والستين، التي اختار منظّمو المعرض (النادي الثقافي العربي، اتحاد الناشرين اللبنانيين) عبارة “أنا أقرأ بتوقيت بيروت” عنواناً لها أو شعاراً
شعوب الشعب اللبناني
حين زرتُ صالة المعرض، وسط تلك الزحمة الخانقة، كان معظم زوّاره المزدحمين جمهوراً أهليّاً وعائليّاً، ينتمي إلى فئة ومناطق محدّدة. وقد يكون شطراً من الجمهور الأهلي والعائلي والفتيان والشبّان الذين يزدحمون على كورنيش بيروت البحريّ من الروشة إلى رصيف “بيروت باي” ونادي اليخوت، متنزّهين نهارات الآحاد المشمسة وفي عطل عيدَيْ الفطر والأضحى. ولمّا دخلتُ صالة المعرض في الخامسة من بعد ظهر الأحد، كانت حوراء حوماني توقّع كتابها “إيران وهوليوود.. القوّة الناعمة لصناعة صورة الآخر”، وسط الزحمة إيّاها.
وقبل ظهر السبت الذي سبق ذاك الأحد، قمتُ بنزهةٍ صباحية مع صديق على رصيف منطقة “البيال”، فإذا به هادئ وخالٍ إلا من متنزّهين قليلين من الفئات التي كنّا نسمّيها متوسّطة. ولمّا مررنا على رصيف صالة المعرض، كان المنظّمون يتهيّأون لافتتاحه ولا يسمحون بدخول الصالة إلا للعاملين في دور النشر. فأكملنا نزهتنا وتناولنا فنجانَيْ قهوة في أحد المقاهي – المطاعم التي يُقال إنّها فخمة والباقية من وسط بيروت المقفر، قرب منطقة “البيال” إلى الغرب من شارع فوش. كان معظم روّاد تلك المقاهي – المطاعم نساءً وصبايا يصلن بسيارات دفع رباعي سوداء فخمة و”مفيّمة” الزجاج، فيترجّلن منها بثيابهنّ “السبور” من ماركات عالمية. والسيليكون حاضر بقوة لافتة في وجوه معظمهنّ، على الرغم من أنهنّ في مقتبل أعمارهنّ.
أليست هذه المشاهد بين أروقة صالة معرض الكتاب ورصيف “البيال” وتلك المقاهي، في أوقاتها المتفرّقة في نهارين اثنين، صورة حيّة عن “شعوب الشعب اللبناني” المتفرّقة والمتباينة، حسب عنوان كتاب أصدره حازم صاغية وبيسان الشيخ قبل سنوات؟
لتكتمل هذه المشاهد لا بدّ من التعريج مساء الأحد على مشهد في مطعم بيروتيّ افتُتح قبل أشهر قليلة لـ”السفيحة البعلبكية” والمشاوي في محلّة القنطاري، ويقالُ إنّ صاحبه يملك مزرعة في البقاع لتزويد مطعمه باللحوم والأجبان والألبان. كان الزحام في صالات المطعم مهولاً حول طاولات عشاءٍ أحديّ مبكر في الخامسة مساءً. بدل العرق، مشروب المازات والمشاوي حسب العادة اللبنانية، تصطفّ على الطاولات كؤوس من لبن العيران “على مدّ عينك والنظر”. الجوّ في الصالات محموم وصاخب: جمهور أهليّ عائليّ وقرابيّ بيروتيّ من المقتدرين اقتصادياً وماليّاً، لكنّ علامات هذا الاقتدار لا تظهر إلا في أصناف المآكل الكثيرة الفائضة على الطاولات. ولا يخلو هذا الجمهور من شبّان وصبايا بعضهنّ محجّبات، فيما دخّان النراجيل الحامي يبرّده في الأفواه لبن العيران المبرّد، وعيون الحشود حول الطاولات شاخصة إلى شاشات عملاقة تبثُّ إحدى مباريات المونديال الكروي في الدوحة.
كلمات.. وحشود
شطر من جمهور المطعم البيروتي الجديد، الشبابي خصوصاً وأمثاله من بيئات أهليّة أخرى، لا بدّ أن يكون من المحتشدين/ات في مشهد حفل توقيع الداعية الأخلاقي والعاطفي، خرّيج قسم علوم الأحياء في الجامعة الأميركية في بيروت، والحائز دكتوراه من أميركا في هذا الاختصاص، الدكتور خالد غطاس، الذي وقّع بعد ظهر السبت كتابه “وكان النفاق جميلاً: روايات فلسفية قصيرة”. وهو صادر عن دار “عصير الكتب” في القاهرة التي كان وقّع غطاس كتابه عينه في معرضها، وتهافت على نيل توقيعه ألوفٌ من الفئات العمرية الشابّة وسواها. وهذا ما حصل أيضاً في معرض الكتاب البيروتي. وقد نقلت صور وأشرطة فيديو مشاهد الحشود المتدافعة لشراء الكتاب موقّعاً من الداعية الأخلاقي الفلسفي، الذي هبّ من خلف طاولة التوقيع واقفاً شاكراً المحتشدين/ات المتدافعين، ومعظمهم من الشبّان والفتيات، محجّبات وسافرات، قائلاً لهم إنّه اختصاراً للوقت وتلبية لرغباتهم، سوف يضع توقيعه على نسخ من الكتاب من دون كتابة أسمائهم عليها. وهو في هذا جعل توقيعه شبيهاً بتوقيع نجوم الغناء والسينما على دفاتر أو أوراق يوزّعونها على معجبيهم المولَّهين بنجوميّتهم كأنصاف آلهة.
صبيحة الإثنين نشر الشاعر والصحافي عقل العويط في صحيفة “النهار” مقالة عن المعرض عنونها “إفرح يا قلبي”، مستعيراً عنوان رواية جديدة لعلوية صبح، بعدما وقّعتها في المعرض بعد ظهر الأحد المزدحم
يبدو أنّ نجومية الفيلسوف الشفوي والداعية الأخلاقي خالد غطاس، صنيعة وسائط التواصل الاجتماعي المبثوثة عليها أشرطة حفلاته الفلسفية المحكيّة في ندوات ومعارض كتب في عواصم بلدان الخليج العربية. وعناوين هذه الأشرطة من أمثال “لماذا أنا أحبّ الفواكه؟”، “شو مفهوم الحب بالنسبة إليك؟”. ويجيب الدكتور على مثل هذه الأسئلة بكلمات وعبارات حكائية تتراصف فيها كلمات لا معنى لها، فيما موسيقى إيقاعية خفيفة وناعمة، كتلك التي يُقال إنّها رومنسية، تصاحب تلك الكلمات، التي كتب نزار قباني مرّة إنّها “كلمات ليست كالكلمات”.
الحقّ أنّ ظاهرة هذا الداعية وحشود جمهوره الفتيّ والشابّ، غريبة وغير مفهومة بعد، إلا على نحو احتمالي وتقريبي: مراهقون ومراهقات وشبّان وشابّات من فئات وسطى وما دونها، من بيئات تقليدية ومحافظة، تتوق إلى مثال أخلاقي وعاطفي جديد مفقود في أوساطها الاجتماعية الحيّة، فتلجأ إلى تلقّفه على وسائط التواصل الاجتماعي. ويستغلّ أمثال الداعية غطاس هذين الغياب والفقدان، ويروح يبثّ ويسوّق مواعظه عن الحبّ والصداقة والسعادة والخيانة وغيرها في الفضاء الإلكتروني المفتوح.
قد تكون ظاهرة دعاة التديُّن “اللايت” والمنفتح الذي يحضّ على العطاء والقيام بذات النفس الفردية وبثّ الثقة أو الطاقة الإيجابية في النفوس، بدل التديُّن المتطرّف، من أمثال الداعية المصري عمرو خالد الذي كان له جمهوره الضخم في العقد الذي سبق الثورة المصرية والربيع العربي سنة 2011، قد تكون هذه الظاهرة مثالاً يستلهمه ويجدّده دعاة من أمثال خالد غطاس، بعدما يحذفون منه البعد الديني، ليناسب مزاج ومتطلّبات أجيال شابّة جديدة. والدليل على هذا التجديد أنّ غطاس له جمهوره في القاهرة التي أصدر كتابه عن دار نشر فيها. ونعرف اليوم أنّ دعاة التديُّن مهما كان نوعه لا سوق لدعواتهم اليوم في مصر ولا في بلدان الخليج العربية.
توقيت بيروت ولبنان
تظاهرة توقيع الداعية غطاس كتابه في معرض بيروت، كان قد سبقها افتتاح المعرض ظهيرة السبت الماضي. فألقى كلمات الافتتاح كلٌّ من رئيس الحكومة المشلولة والكثيرة الصفات والأسماء المماثلة، نجيب ميقاتي، والسيدة سلوى السنيورة بعاصيري، رئيسة النادي الثقافي العربي الذي ينشطه شقيقها الرئيس فؤاد السنيورة، التي تحدّثت عن ضيق مساحة المعرض وتقلّصها من 10 آلاف م2 إلى 2,200 م2 في هذه الدورة. وهذا ما قد يفسّر الزحام الأحديّ الكبير والخانق في المعرض.
وإذا كانت عبارة “أنا أقرأ بتوقيت بيروت” شعاراً للمعرض، فإنّ “توقيت” لبنان كلّه ينتظم وفق عبارة تردّدت ولا تزال في الإعلانات التلفزيونية، وتستهلّ كلّ نشاط مهما كان نوعه في الربوع اللبنانية: “على الرغم من الوضع الاقتصادي الصعب والسيّئ نحن مكملين أو مستمرّين”. وهذا أقلّه منذ بداية الصيف الماضي حين استعرت حمّى الدعوات الإعلامية والإعلانية لاستدراج المغتربين اللبنانيين إلى زيارة بلدهم “الأمّ” والسياحة فيه لنجدة أهلهم المسحوقين والمطحونين ومساعدتهم.
لكن لا بدّ من التساؤل هنا: مكمْلين ومستمرّين إلى أين؟ الرئيس السابق ميشال عون، وقبل أكثر من سنتين من إخلائه كرسي رئاسة الجمهورية في كرنفال احتفالي فهمه الناس نكايةً بمأساتهم، كان قد قال حرفيّاً: “ذاهبون إلى جهنّم”.
إقرأ أيضاً: متحف نابو: أول صور نادرة لبيروت تؤرخ عمرانها
اليوم يبدو أنّ “شعوب الشعب اللبناني” بدأت تتعوّد وتتكيّف مع الحياة في أنواع مختلفة من “جهنّم” الرئيس الذي لم يغادر القصر الجمهوري إلا متحسِّراً. وهو ضَرَب لمريديه وأتباعه موعداً لاستكمال “نضاله” معهم، حتى يقوّض الحجر الأخير في الديار اللبنانية. أو ربّما علينا القول إنّ لكلٍّ جهنّمه التي تكيّف معها وألِفَها في لبنان.
وفي ما يتعلّق بمعرض الكتاب البيروتيّ يروي بعض الزائرين أنّهم صاروا يتجوّلون بين معروضات دور النشر حذرين في أوقات ما بعد الظهر والمساء التي تشهد توقيع الكتب الجديدة، لئلا يصادفوا أصدقاءهم ومعارفهم من الكتّاب يوقّعون كتبهم، فتكون حصيلة ما يتكبّدونه في جولة واحدة بين دور النشر لا تقلّ عن مليون ونصف مليون ليرة. لذا قال كثيرون إنّهم يستحسنون زيارة المعرض في أوقات قبل الظهر الهادئة، حينما لا توقيعات ولا ازدحام ولا حشود ولا ملايين لشراء الكتب الموقّعة من مؤلّفيها.