يبدو أنّ الزيارة التي قام بها مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للعاصمة الإيرانية طهران برفقة المرشّح السابق لرئاسة الجمهورية عن الحزب الديمقراطي ووزير داخلية الإقليم ريبر أحمد بارزاني، لم تساعد في إقناع القيادات الأمنيّة الإيرانية بأنّ قيادة الإقليم العراقي جادّة في التعامل مع الهواجس والمطالب الإيرانية المتعلّقة بالأحزاب الكردية الانفصالية الناشطة في المناطق الحدودية المشتركة، التي تتّهمها طهران باستغلال الأحداث الأخيرة داخل إيران بعد مقتل الفتاة مهسا أميني من أجل إشعال الاعتراضات المسلّحة في المناطق والمحافظات الكردية والعمل على استهداف وحدة الأراضي الإيرانية سعياً إلى تحقيق هدفها بالانفصال في إطار الحلم التاريخي الكردي بإقامة كردستان الكبرى.
تتّهم طهران قيادة إقليم كردستان العراق بالمراوغة واعتماد سلوكين متناقضَيْن. فطهران تنظر إلى الكلام، الذي سمعته من الموفد الكردي ريبر أحمد الذي فُرضت عضويّته على الوفد العراقي، عن استعداد قيادة الإقليم للتعامل الجدّي مع المخاوف والهواجس الإيرانية، بأنّه كلام مراوغ لم تتمّ ترجمته عمليّاً على أرض الواقع، بل على العكس تعمد هذه القيادة، وفق إيران، إلى تقديم المساعدات والتسهيلات الميدانية والدعم المعنوي والسياسي لهذه الجماعات بما يسمح لها بالاستمرار في أنشطتها التي تستهدف الأمن الإيراني انطلاقاً من معسكراتها ومقرّاتها داخل أراضي الإقليم.
الاستراتيجية التي يعتمدها النظام في التعامل مع الحراك الاحتجاجيّ والتظاهرات المطلبية بمختلف شعاراتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، تقوم على محاولة التقليل من حجم ومخاطر وتداعيات الحراك الداخلي
يأتي التركيز الإيراني على دور الأحزاب الكردية الانفصالية (مثل “الكوملة” والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني)، وتحميلها المسؤولية عن استمرار الاضطرابات الأمنيّة وتأجيج الشارع ضدّ النظام والحكومة المركزية، منسجماً مع مساعي النظام ورغبته في البحث عن ذريعة أو جهة يحمّلها مسؤوليّة ما يسمّيه “استهدافاً” خارجياً للنظام تنفّذه جماعات داخلية في إطار أجندات وضعتها أجهزة مخابرات دولية وإقليمية تبدأ من الـ”سي.آي.إيه” وتمرّ بالمخابرات البريطانية والإسرائيلية وصولاً إلى المخابرات السعودية.
النظام يبحث عن عدوّ “خارجيّ”
الاستراتيجية التي يعتمدها النظام في التعامل مع الحراك الاحتجاجيّ والتظاهرات المطلبية بمختلف شعاراتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ومن بينها الحرّيات الخاصة والعامّة والتعدّدية الحزبية وحرّية الرأي والتعبير، تقوم على محاولة التقليل من حجم ومخاطر وتداعيات الحراك الداخلي. في المقابل، يُعمل على تضخيم الأخبار عن التهديد الخارجي والحركات الانفصالية والجماعات المسلّحة التي تدير معركة المطالبة بحقوق الأقليّات القومية والعرقية والطائفية.
لكن يتبيّن من خلال المقارنة بين القوّة التي استخدمتها أجهزة النظام في قمع التحرّكات الاحتجاجية عام 2019 على خلفيّة أزمة رفع أسعار البنزين والمشتقّات النفطية، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 350 شخصاً باعتراف وزير الداخلية حينذاك رحماني فضلي، وأكثر من 1,500 حسب تقارير جمعيات حقوق الإنسان والأحزاب المعارضة، وذلك خلال أيام معدودة، وبين القوّة التي استخدمتها في التعامل مع الحراك الحالي، أنّ هذه الأخيرة تبدو أكثر دقّة بهدف تخفيف الانتقادات الخارجية من جهة، وعدم استثارة الجماعات المؤيّدة للاحتجاجات ودفعها إلى النزول إلى الشارع بما يعقّد الأمور على النظام أكثر من جهة أخرى. إذ على الرغم من مرور أكثر من ستّين يوماً، لم تتجاوز أعداد القتلى، سواء من المتظاهرين أو رجال الأمن والشرطة والباسيج والاستخبارات، حسب إحصاءات المعارضة، 350 قتيلاً.
إنّ سياسة البحث عن عدوّ خارجي أو داخلي، والتركيز على نظريّة المؤامرة، ومحاولة القفز عن الأسباب الداخلية المطلبية المتراكمة على مدى عقود، وإلغاء كلّ ما يمكن أن يشكّل نافذة للتعبير عن التنوّع والتعدّد، والإصرار على “أحاديّة” التمثيل وحصرها في شريحة واحدة تؤيّد النظام وتواليه على حساب الآخرين، كلّ هذا يضع النظام والدولة العميقة في دائرة البحث عن جهة يحمِّلانها مسؤولية ما يواجهانه من أزمات متكرّرة، ليس فقط هذه المرّة، بل في كلّ الأحداث السابقة والماضية، عبر اتّهام الجماعات الانفصالية أو الحركات السياسية المعارضة بتنفيذ مخطّطات تشرف عليها دوائر هدفها النيل من النظام واستقراره وتقطيع أوصال الجغرافيا الإيرانية وضرب وحدة الأراضي الإيرانية وإقامة دويلات خاصة بالأقليّات في سياق مشروع تقسيم المنطقة وإضعافها.
يبدو واضحاً حجم تحدّي النظام وتهديده نتيجة الحراك الكردي من خلال ضرب طهران لكلّ القواعد الدبلوماسية والسياسية وأسس الأمن الإقليمي إثر عمليات القصف والاستهداف التي قامت بها
العنف الكبير ضدّ الشعب
من هنا يمكن فهم مستوى الحزم والعنف الكبيرين اللذين مارستهما أجهزة النظام ومؤسّساته العسكرية والأمنيّة في التعامل مع الحراك المطلبيّ الذي شهدته محافظة سيستان وبلوشستان، وذهابها سريعاً إلى أعلى درجات القمع والقتل في محاولتها حسم الموقف بسرعة، من دون الأخذ بعين الاعتبار الصوت الذي رفعه إمام جماعة زاهدان مولوي عبدالحميد. فالأخير انتقد سياسة القتل والقمع التي مورست بحقّ أبناء هذه المنطقة والمحافظة، واحتجّ على ما اعتبره “تهديداً من وفد خامنئي” في أيلول الفائت. في حين أنّ التوتّر الأمني الذي بدأ قبل أكثر من شهرين مع دولة آذربيجان على خلفيّة حربها مع أرمينيا، ساهم في تحويل المحافظات الإيرانية الحدودية إلى معسكرات ومناطق عمليّات عسكرية استعداداً لإمكانية حصول حرب ولمنع إحداث أيّ تغيير في الحدود الجيوسياسية للمنطقة على حساب المصالح الإيرانية في الممرّات البرّية باتجاه جورجيا وأوروبا.
أمّا الاستراتيجية التي لجأ إليها النظام في طهران للتعامل مع الحراك الكردي، فاعتمدت على استخدام “القوّة الغاشمة” المرتكزة على القصف الغزير لهذه المناطق ولمقرّات أحزابها، على أمل أن يستطيع إقفال ملفّ الأحزاب الكردية المسلّحة التي تشكّل مصدر قلق دائم له، وتجبره على إبقاء جزء من قواته في الجيش وحرس الثورة وأجهزة الاستخبارات في حالة استنفار دائم ومستمرّ.
وإذا ما كانت هذه السياسة لدى النظام تاريخية في التعامل مع المناطق الكردية من خلال تنميط أيّ حركة احتجاجية أو مطلبية للأكراد واعتبارها تصبّ في مصلحة حزبَيْ “الكوملة” والاتحاد الديمقراطي الإيراني، خاصة في الحراك الحالي، فإنّ ردّة فعله بتحريك فيلق أو قوّة “حمزة سيّد الشهداء” المتخصّص بحرب العصابات والمدن والمؤلّف من حرس الثورة، والذي مقرّه مدينة أروميه، باتجاه مدينة مهاباد، وتحويل هذه المدينة إلى منطقة عسكرية مغلقة، وممارسة أعلى درجات العنف لاستعادة السيطرة عليها، تكشف حجم التحدّي الذي يعيشه النظام، خاصة بعدما قدّم له مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق جون بولتون الذريعة لهذه الإجراءات، عندما تحدّث عن تسليح الجماعات الكردية بهدف قلب النظام.
“العنف الأكبر” اتّجاه الأكراد
يبدو واضحاً حجم تحدّي النظام وتهديده نتيجة الحراك الكردي من خلال ضرب طهران لكلّ القواعد الدبلوماسية والسياسية وأسس الأمن الإقليمي إثر عمليات القصف والاستهداف التي قامت بها علانية لمقرّات ومواقع المعارضة الكردية الإيرانية المسلّحة داخل الأراضي العراقية وإقليم كردستان، وتوجيه رسائل واضحة لقيادات الإقليم باستعدادها للذهاب إلى أبعد من ذلك ومحاسبة من يقف ويدعم ويسمح لهذه الجماعات بالعمل ضدّ الأمن القومي الإيراني.
إنّ ما قامت به قوات حرس الثورة من ضربات صاروخية وإطلاق طائرات مسيّرة ضدّ هذه القواعد داخل كردستان العراق، وإن كان يحمل رسائل تتجاوز قيادة الإقليم وتطال الجانب الإسرائيلي باعتباره المتّهم الرئيس بالتحريض والدعم، جاء مترافقاً مع تحرّك دبلوماسي واضح الأهداف والأبعاد قام به السفير الإيراني في بغداد محمد آل صادق، القيادي السابق في قوّة القدس، الذي طالب الحكومة العراقية بتولّي مسؤولية ومهمّة إدارة الحدود المشتركة بين البلدين، ومن بينها المنافذ البرّية، في رسالة واضحة إلى حكومة الإقليم التي ترفض التعاون تاريخياً مع الحكومة الاتحادية في هذا الموضوع، بالإضافة إلى اشتراط إيران أن يفكّك الإقليم قواعد ومراكز ومعسكرات هذه الجماعات والأحزاب، وإعادة إسكانهم في مجمّعات بصفة لاجئين، ومنعهم من ممارسة أيّ نشاط سياسي أو عسكري. وهي مطالب كُشف عنها بالتزامن مع الزيارة الرسمية والمعلنة التي قام بها قائد قوة القدس الجنرال إسماعيل قاآني لبغداد، وهدفت إلى إيصال رسالة إلى الجانب العراقي بضرورة التحرّك وفق المخاوف الإيرانية.
إقرأ أيضاً: السعوديّة ردّاً على تهديدات إيران: عروبة العراق أوّلاً
تعيد هذه الشروط والمطالب الإيرانية إلى الذاكرة الخطوات التي لجأت إليها طهران مع القوات الأميركية في التعامل مع جماعة مجاهدي خلق في معسكر أشرف بالقرب من مدينة ديالى بعد احتلال العراق. وتشير إلى أنّها على استعداد لاستكمال عملياتها العسكرية حتى القضاء على الجماعات الكردية ومحاسبة الجهات التي تقف معها وتدعمها من دون أيّ رادع أو محاذير.