شمعون: فتى عروبةٍ خانها مع الغرب

مدة القراءة 10 د

سُئل الرئيس كميل نمر شمعون عن قصّة لقبه “فتى العروبة الأغرّ”، فقال في مذّكراته بعد نهاية ولايته الرئاسية: “يوم الإثنين 16 نيسان 1945 تركتُ لندن لأستقلّ الطائرة إلى القاهرة، ومنها إلى اللدّ يوم الثلاثاء، واستقبلني في المطار عدد من وجهاء يافا. زرت النادي العربي حيث ألححت بصراحة على وجوب اتحاد جميع الفلسطينيين واستعدادهم لمقاومة الخطر الصهيوني المتفاقم. وغادرت حيفا وكانت مدينة صور أوّل محطّة وقد اكتست بحلل العيد. توقّف الموكب للردّ على الخطب التي أُلقيت. أمّا في صيدا فقد كان المشهد فريداً: يريد الجميع هنا كما في مصر وفلسطين أن يعربوا عن تقديرهم للجهود التي بذلتُها في سبيل لبنان والبلدان العربية. لم تتأخّر الدامور، ولا الشويفات، ولا الحدث، ولا الشيّاح عن أن تشرّفني بعاطفتها. لكنّ استقبال حيّ البسطة في بيروت فاق كلّ الخيال. كان رياض الصلح وحبيب أبو شهلا والأمير مجيد أرسلان في عداد الذين نظّموا التظاهرة الرائعة”. وأكمل شمعون قائلاً: “يوم السبت (21 ـ 4 ـ 1945) سافرت إلى دمشق وزرتُ رئيس الوزارة، وأبى رئيس الجمهورية إلا أن يشكرني بحرارة لدفاعي عن المصالح السورية كدفاعي عن المصالح اللبنانية”.

في خضمّ “الثورة البيضاء” على الرئيس بشارة الخوري سنة 1952 أقفلت بيروت، واضطرّ الرئيس بشارة الخوري إلى تقديم كتاب استقالته، وسمّى فؤاد شهاب رئيس حكومة انتقالية ترعى انتخاب رئيس جديد للجمهورية

الخارج يصنع الرئيس

بهذه المحطّات السياسية الكليشويّة والمكّوكية والتكتيكية، علّل شمعون أسباب لقبه الذي تحوّل “أسطورة” في مسيرته وعلاقاته العربية المتناقضة والملتبسة والمحنّكة وحتى العدائية. وهو طالما زايد على الرئيس الراحل رياض الصلح في الموضوع الفلسطيني، والنزاع مع إسرائيل. والأرجح أنّه كان يعي أنّ السياسة اللبنانية تمرّ عبر المسالك الإقليمية والدولية. وفي هذا السياق تأتي سهراته في زقاق البلاط، في منزل السيّدة مود فرج الله التي لعبت دوراً مهمّاً نظراً إلى صداقتها مع الجنرال إدوارد سبيرز ممثّل بريطانيا في لبنان، في زمن كان هناك نزاع بين بريطانيا وفرنسا في المنطقة، وصولاً إلى زيارته العراق وعلاقاته ببريطانيا وأميركا.

في خضمّ “الثورة البيضاء” على الرئيس بشارة الخوري سنة 1952 أقفلت بيروت، واضطرّ الرئيس بشارة الخوري إلى تقديم كتاب استقالته، وسمّى فؤاد شهاب رئيس حكومة انتقالية ترعى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

سبقت هذه الأحداثَ زيارةُ شمعون لسوريا حيث اجتمع برئيس دولتها العسكري الانقلابي أديب الشيشكلي، فوجد فيه “عوناً له على فريق من اللبنانيين. فاستعان به وأعانه الرئيس السوري. وإذ بكميل شمعون بين ليلة وضحاها يجتذب إلى صفّه عدداً لا يُستهان به من نواب الشمال زملاء حميد فرنجية (منافسه على الرئاسة) ونواب بيروت أيضاً، بفضل الضغط السياسي من جانب سوريا الشيشكلي وتدخّل السفير البريطاني في بيروت. وبدا واضحاً للعيان ذلك التحوّل في خيارات النواب الانتخابية، من حميد فرنجية ليلاً إلى كميل شمعون صباحاً”.

هكذا أخرج اللاعب كميل شمعون الأرنب من كمّه، فانتقلت الأكثرية النيابية من حميد فرنجية إليه، وانتُخب رئيساً للجمهورية في 22 أيلول 1952. وأصبح تحوُّل الأكثرية من دفّة إلى أخرى مضرب مثل في تاريخ الجمهورية اللبنانية وفي تاريخ انتخابات الرئاسة اللبنانية، وباتت هذه المشهدية شاهدة على طرق انتخاب الرئيس، والتدخّلات التي تحصل في الكواليس وفي العلن.

مارس شمعون السياسة بطريقة “فخامة الملك”، وهمّش رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب وتقرّب من الجمهور الشيعي وفصّل قانون الانتخاب على قياسه، وأسقط صفوة الطوائف، كمال جنبلاط في الشوف، وكامل الأسعد في الجنوب، وصائب سلام في بيروت

نكبات عربيّة وبحبوحة

طالما اعتُبر الرئيس كميل شمعون الرئيس الماروني النموذج الذي لا يقارَع، وتغنّى بعض السياسيين بأنّه السيادي والاستقلالي البارز، ولُقِّب أيضاً بـ”آخر العمالقة”، و”فخامة الملك”، لكنّه في الكواليس يشبه أقرانه من سياسيّي الأمس واليوم الذين ينتظرون السفارات وتوجّهاتها. قد يقول البعض عن العهد أو الزمن الشمعوني إنّه “الزمن الجميل”. ربّما هو كذلك من ناحية المشاريع والبحبوحة الاقتصادية والمهرجانات الفنّية والسياحية لسببين أساسيَّين، أو بالأحرى ثلاثة: نكبة فلسطين، وما جرّته من انقلابات عسكرية وتأميمات وهرب رساميل عربية إلى لبنان، وبدء تدفّق عائدات النفط العربي على بيروت. لكنّ العهد الشمعوني قد لا يختلف عن سواه من العهود الرئاسية اللبنانية كلّها من الناحية السياسية.

تسلّم شمعون الرئاسة اللبنانية وحكم من قصر القنطاري في الحيّ البيروتي النخبوي إلى جانب زقاق البلاط. كان القصر عينه مقرّ بشارة الخوري المستقيل بعد تمديد عهده. وعندما كان شمعون يلقي خطاب قسمه ويعد الناس ويتعهّد لهم بمشاريع كثيرة، لم يكن قد مضى أكثر من شهرين فقط على “ثورة الضبّاط الأحرار” في مصر وإطاحتهم حكم الملك فاروق. ولمّا كان لبنان واقعاً على خطّ الاستقطابات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وسط اشتداد فصول الحرب الباردة بين الجبّارين بعد الحرب العالمية الثانية، فإنّه سرعان ما تحوّل ساحة صراع دولي – إقليمي في العهد الشمعوني المزامن للعهد الأمنيّ والخطابة الجماهيرية الثورية الناصرية في القاهرة وإذاعتها الملتهبة “صوت العرب”.

عشيّة حرب السويس أو العدوان الثلاثي (الإسرائيلي، البريطاني، الفرنسي) على مصر الناصرية سنة 1956، بعد إعلان ناصر تأميم قناة السويس وإقامة واشنطن حلف بغداد (إيران والعراق الملكي وتركيا) لمجابهة النفوذ الشيوعي السوفييتي في الشرق الأوسط، اختار الرئيس شمعون، الفتى الأغرّ للعروبة الملكية الآفلة في مصر والمتهيّئة للأفول في العراق، وشدّد مع وزير خارجيّته شارل مالك على أن تكون السياسة الخارجية موالية للغرب وحلف بغداد، فيما العروبة الناصرية الجماهيرية تتّجه إلى المعسكر السوفييتي النقيض.

هكذا انفجرت الصيغة اللبنانية. إذ تكتّل في حلف شعبي ضدّ شمعون زعماء مسلمون (صائب سلام، رشيد كرامي، كمال جنبلاط)، واصطفّ إلى جانب الرئاسة الشمعونية حزب الكتائب المسيحي بزعامة بيار الجميّل. من غرائب تلك الاصطفافات وقوف الحزب السوري القومي المعادي للكتائب والكيان اللبناني إلى جانب شمعون، الذي انتهى عهده ورغبته في تمديده بحرب شوارع أهليّة صغيرة ربيع سنة 1958. حينذاك شعر المسيحيون أنّ استقلالهم مهدّد.

كان النظام العروبي الناصري راغباً في إنهاء العروبة الملكية في السعودية والعراق والأردن التي سمّاها رجعيّة وعميلة للاستعمار والتي كان شمعون فتاها الأغرّ. أمّا سوريا فكانت تعيش مرحلة انقلابات عسكرية متتالية ومتسارعة وتوقاً محموماً إلى الوحدة العربية مع مصر الناصرية. كانت خطّة شمعون التعاون الوثيق مع الغرب ودُوَل حلف بغداد، في السرّ حيناً، وفي العلن أحياناً، لمناهضة الشيوعيّة الدولية. وإبّان حرب السويس لم يقطع علاقاته الدبلوماسية مع الدولتين المعتديتين، ثمّ انضمّ إلى مبدأ آيزنهاور، وأعلن مواجهة مفتوحة مع عبد الناصر.

أخرج اللاعب كميل شمعون الأرنب من كمّه، فانتقلت الأكثرية النيابية من حميد فرنجية إليه، وانتُخب رئيساً للجمهورية في 22 أيلول 1952

الوحدة ورعب المسيحيّين

مارس شمعون السياسة بطريقة “فخامة الملك”، وهمّش رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب وتقرّب من الجمهور الشيعي وفصّل قانون الانتخاب على قياسه، وأسقط صفوة الطوائف، كمال جنبلاط في الشوف، وكامل الأسعد في الجنوب، وصائب سلام في بيروت، وسعى إلى التفرّد بكلّ شيء: الوظائف والمشاريع والسياسة الخارجية. يقول الرئيس الراحل صائب سلام للصحافي غسان شربل في “دفاتر الرؤساء”: “أيّدته (شمعون) لأنّه كان فتى العروبة الأغرّ. وكان مأمولاً منه أن يكون رئيساً جيّداً”. (على هامش هذه العجالة كان حزب فتى العروبة الأغرّ، حزب الوطنيين الأحرار، في طليعة من فتكوا بمخيّم تل الزعتر الفلسطيني في بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وفي طليعة الأحزاب التي سوّقت فوبيا فكرة الغريب في لبنان).

في 22 شباط 1958 حصل تحوّل كبير في المشرق العربي: إعلان الوحدة بين مصر وسوريا بطريقة أظهرت الأيام أنّها قامت على شيء من الاعتباطية والتسرّع والخضوع السوري للعروبة الناصرية. ودبّ الذعر المسيحي في لبنان من هذه العروبة الجماهيرية الكاسحة. وسياسياً واقتصادياً كانت للوحدة انعكاساتها الخطيرة على لبنان وعلى الكثير من السياسيين السوريين، وحتّى على الاقتصاد السوري وأركانه التقلييديين.

صار عبد الناصر رئيس القطرَيْن. وازداد تهديده للعهد الشمعوني المعارض للوحدة والعروبة الجماهيرية الجديدة. في السابع من أيار عام 1958، اغتيل الصحافي اللبناني المعارض لشمعون نسيب المتني واشتعلت الثورة أو الحرب الأهلية الصغيرة، فيما كان شمعون يستمرّ في افتتاح المشاريع: بناء سدّ الليطاني، إنشاء بحيرة القرعون. لكنّ نبض الشارع كان أقوى من المشاريع، وكان التفرّد بالحكم طريقاً إلى أزمة كبيرة بدفع من الناصرية وتمدّدها. انقسمت بيروت خطوط تماس وتدفّقت الأسلحة إلى المعارضة عبر الحدود السورية، واشتعلت التوتّرات في طرابلس ومناطق متفرّقة من الجبل والبقاع. في تلك المرحلة كان لدى شمعون موفد أميركي يمثّل الرئيس دوايت آيزنهاور، وآخر يمثّل وكالة الاستخبارات الأميركية إلى جانب السفير الأميركي، توكيداً للاهتمام الأميركي بلبنان.

إقرأ أيضاً: بشارة الخوري: أطاحته “انقلابات” سوريا

نهاية الملكيّة العراقيّة

في 14 تموز، خلال الثورة العروبية الناصرية (الإسلامية) في لبنان ومواجهتها من حزب الكتائب (المسيحي)، ووقوف الجيش بقيادة فؤاد شهاب على الحياد، حصل ما لم يكن بالحسبان: قام انقلاب عسكري دموي على الملكيّة في بغداد، وقضى على الأسرة الملكية الهاشمية ورئيس الوزراء العراقي نوري السعيد. وقد حذّر كبار مستشاري الرئيس شمعون، ومنهم وزير خارجيّته ومدير وكالة الاستخبارات المركزية، من أنّ الانقلاب العراقي سيؤدّي إلى انهيار الحكومات الموالية للغرب في المنطقة، وإلى سيطرة الشيوعيين. وفي اليوم التالي وصلت قوات المارينز إلى شاطئ الأوزاعي ببيروت لتقديم الدعم للرئيس شمعون، لكنّ أميركا أدركت سريعاً تعقيدات الداخل اللبناني، ونتيجة الاتصالات بين عبد الناصر والأميركيين (كان عبد الناصر أقرب إلى أميركا في مقابل مخاصمة بريطانيا) تمّ التوصّل إلى تسوية تقضي بانتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. حصل ذلك في 31 تموز، وفي 23 أيلول تسلّم شهاب الرئاسة من كميل شمعون الذي غادر قصر القنطاري وبدأ إعادة بناء مستقبله السياسي خارج الرئاسة. لقد خرج من الرئاسة، لكنّه لم يخرج من الصراع على الرئاسة. وما استخلصه شمعون من السياسة الأميركية بعد صولات وجولات 1958، أنّ “أميركا تعطيك المظلّة للفرجة والنظر وتأخذها منك في العاصفة والمطر”.

غداً: فؤاد شهاب: العهد الذي قرأ في الكتاب

المصادر:

– فؤاد عوض، كتاب “الطريق إلى السلطة”، منشور إلكترونياً.

– سامي مروان مبيض، “عبد الناصر والتأميم: وقائع الانقلاب الاقتصادي في سورية”، دار رياض الريس للكتب – بيروت.

– كميل شمعون، “مذكّراتي”.

– نقولا ناصيف، “كميل شمعون… آخر العمالقة”، دار النهار.

– يوسف سالم، “خمسون سنة مع الناس”، دار النهار.

– غسان شربل، “دفاتر الرؤساء”، منشورات رياض الريس.

مواضيع ذات صلة

عهد ميشال عون: جنرال الانقلابات الدائمة

مع نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، طوى لبنان صفحة سوداء من تاريخه المعاصر لعهد كانت سنواته الستّ انقلاباً مستمرّاً على الدولة والدستور والطائف. بيد أنّ…

ميشال سليمان: جامع مجد المعادلتين.. “الخشبيّة” و”الذهبيّة”

لعلّ ميشال سليمان هو الرئيس الأقلّ إشكاليّة منذ اتفاق الطائف. فهو أوّل رئيس جاء بتوافق وإجماع لبنانيَّين، معطوف على إجماع عربي ودولي، بعد خروج القوات…

إميل لحّود: رجل الأسد “بنصّ كمّ”

إميل لحّود هو رجل سوريا الأسد، الأب والابن من بعده. وقد سجّل عهده أحداثاً مهمّة ومفصليّة في تاريخ لبنان الحديث: – انسحاب الجيش الإسرائيلي من…

الياس الهراوي: عهد وصاية “الروح القدس” الأسديّة

في التقاليد اللبنانية (العشائرية)، لا يُفَكَّر بالخلف قبل دفن السلف. لكنّ مهلة الخجل، أي وقت الحداد، حسب تيودور هانف، لم تُحترَم بعد اغتيال الرئيس رينيه…