تمكّنت إسرائيل في انتخابات الكنيست الأخيرة من فضّ الاشتباك القائم بين الديمقراطية والثيوقراطية (الحكم الديني، أو حكم رجال الدين) والذي يدخل في صميم هويّتها الملتبسة.
حملت إسرائيل مبكراً نواة هذا الالتباس بين الديمقراطية والثيوقراطية، وكان محلّ نقاشات في توصيف الدولة التي أعلنت أنّها دولة ديمقراطية، لكنّها تحتلّ شعباً آخر وتتعامل معه بعنصرية دينية مجافية للحدّ الأدنى من قيم الديمقراطية، وقومية تسيطر على قومية أخرى بقوّة السلاح وتطرد السكّان الأصليين.
يمكن القول بعد نتائج الانتخابات الإسرائيلية إنّ أحزاب اليسار الصهيوني، التي أسّست إسرائيل، على يد علمانيّيها تيودور هرتزل وديفيد بن غوريون، ذهبت أدراج الرياح، وبدلاً منها تقوم الآن مشاريع الفولاذ لتحالف اليمين والصهيونية الدينية.
نتانياهو: على الرغم من عدم وجود اتفاق حتى الآن مع الفلسطينيين، إلا أنّ هناك إجماعاً واسعاً على أن تحتفظ إسرائيل بالسيطرة الأمنيّة على المنطقة بأكملها غرب الأردن، وأن تكون القدس العاصمة الموحّدة لإسرائيل التي تفرض عليها سيادتها
علمانيّو إسرائيل قلقون جداً. صحيح أنّ المسألة لم تولد فجأة من رحم الصندوق الأخير، إذ أخذ الحمل دورته الكاملة في التطرّف والعنصرية وكراهية العرب، لكنّ الأمر حدث أخيراً واضحاً وساطعاً.
وفقاً للكاتب الإسرائيلي ناحوم بريناع من “يديعوت أحرونوت”، “قالت الأغلبية الإسرائيلية كلمتها. أرادت الأغلبية تحوّلاً، وتغيير الحكومة، فحصلت على ثورة، نعم ثورة، انعطافة ذات آثار تاريخية، يمكنها أن تكون صافرة بدء مسيرة ستغيّر وجه دولة إسرائيل. انتصار كتلة نتانياهو لا لبس فيه، تحقّق بالقانون، بلا جدال. هتافات الفرح في كتلته مبرَّرة تماماً، وكذا الشماتة: فما هي الفرحة في السياسة إن لم يكن فيها شماتة؟ في نظري هذه بداية النهاية لعصر الصهيونية الليبرالية، والعلمانية الإسرائيلية. عصر آخر يطلّ، مناهضاً للّيبرالية، حريديّاً قوميّاً، ذا نزعة إلى القوّة. يمكن أن نرسل عظام هرتزل إلى فيينا وعظام بن غوريون إلى فلونسك ببولندا. لست واثقاً بأنّ نتانياهو الشابّ كان يريد أن يعيش في الدولة التي سيقف نتانياهو كبير السنّ على رأسها قريباً”.
خطورة “بن غفير” على الأسرى
على وقع ذلك، يبدأ بنيامين نتانياهو مفاوضات مع حلفائه من اليمين المتطرّف لتشكيل حكومته، ويلتقي زعيم حزب القوّة اليهودية، المتطرّف الديني في أقصى اليمين إيتامار بن غفير. وبحسب قناة 13 العبرية، فإنّ بن غفير سيصرّ على تولّي منصب وزير الأمن الداخلي، وسيقدّم عدّة مطالب بعضها يتعلّق بوضع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وهو الأمر الذي يثير مخاوف كبيرة في أوساط الأجهزة الأمنيّة الإسرائيلية. لأنّ من شأن تلبية هذه المطالب أن تؤدّي إلى تدهور الوضع الميداني على الأرض. إذ تعتقد تلك الأوساط أنّ وضع المسجد الأقصى وقضيّة الأسرى الأمنيّين من أهمّ القضايا ذات الإجماع في أوساط جميع الفلسطينيين.
سيطالب بن غفير أيضاً بإلغاء الانتماء التنظيمي في صفوف الأسرى الفلسطينيين، ومنع الوجبات الخاصة، ومنع وجود ممثّل خاصّ بكلّ فصيل، والتشدّد في التعامل مع السجناء في مختلف السجون. وتتوقّع مصادر إسرائيلية أنّه حين يصبح بن غفير وزيراً للأمن الداخلي سيرى الأشياء بطريقة أخرى كما فعل من قبله وزراء آخرون.
بحسب الكاتب الإسرائيلي يوآف ليمور: “لا بدّ أنّكم ستُفاجؤون ببن غفير. قال لي أمس صديق عزيز إنّ “الشابّ سيجتاز تحوّلاً في غضون ثلاثة أشهر وسيتلقّى نقداً من اليمين على يساريّته”. فقلت له إنّه مخطئ، لكنّه أصرّ. قالوا الأمر ذاته عن نفتالي بينيت وحقيبة وزارة الدفاع”.
تمهيداً للمفاوضات الائتلافية مع حزب الليكود بزعامة نتانياهو، اتفق بن غفير وسموتريتش على خوض المفاوضات الائتلافية كتلةً واحدةً والانضمام إلى الائتلاف الحكومي المقبل معاً، وأعلنا في بيان مشترك صدر عنهما في وقت سابق اليوم أنّ “الصهيونية الدينية” لن تشارك في الحكومة من دون “عوتسما يهوديت” حزب بن غفير، والعكس صحيح.
هذا ويعتزم الليكود في المرحلة الأولى الإسراع في تعيين رئيس جديد للكنيست خلفاً لميكي ليفي من حزب يائير لابيد، وذلك في محاولة للسيطرة الكاملة على جدول أعمال وأجندة الكنيست لتجنّب عقبات محتملة يمكن للمعارضة أن تناور من خلالها لتأخير تشكيل الحكومة أو تنصيبها.
حذّر الصحافي الأميركي توماس فريدمان من التداعيات الخطيرة لتشكيل حكومة نتانياهو اليمينية المرتقبة، التي سترتكز على المتديّنين والقوميين المتطرّفين
تشدّد نتانياهو
بعد 4 أيام من فوزه في انتخابات الكنيست، ألقى زعيم الليكود بنيامين نتانياهو خطاباً أمام الكنيست الذي عقد جلسة لمناسبة الذكرى الـ27 لاغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين، على يد ييغال عامير، الذي عارض اتفاقيات أوسلو وتسليم السيطرة على أجزاء من الضفة الغربية للجانب الفلسطيني.
قال بنيامين نتانياهو في هذه المناسبة: “على الرغم من عدم وجود اتفاق حتى الآن مع الفلسطينيين، إلا أنّ هناك إجماعاً واسعاً على أن تحتفظ إسرائيل بالسيطرة الأمنيّة على المنطقة بأكملها غرب الأردن، وأن تكون القدس العاصمة الموحّدة لإسرائيل التي تفرض عليها سيادتها”.
وفي ما بدا كأنّه رسائل للداخل والخارج، القلقِ من احتمال رؤية زعيم حزب العظمة اليهودية إيتمار بن غفير في حكومة جديدة، حاول زعيم المعارضة الإسرائيلية، الذي يستعدّ للعودة إلى الحكم، إرسال إشارات طمأنة، فقال في خطابه: “إذا تخلّت إسرائيل عن حكم القانون وفكّكت ديمقراطيّتها وعادت إلى الوراء بوضعها جانباً رغبتها في السلام وعلاقاتها مع المجتمع الدولي، فإنّنا حينها سنتحوّل إلى دولة ضعيفة وسندفن فكر رابين”.
في الوقت نفسه، أثارت تصريحات رئيس حزب “الصهيوينة الدينية” سموتريش عن اغتيال رابين أزمةً مع جهاز الأمن العام “الشاباك”. ففي خلال اجتماع الكنيست، قال سموتريتش إنّ “رابين قاد عمليّة مدمّرة”، في إشارة إلى اتفاقية أوسلو. واستغلّ أيضاً المناسبة لتكرار نظريات المؤامرة التي تزعم أنّ قوات الأمن الإسرائيلية كانت وراء اغتيال رابين. وقد ردّ مسؤولو “الشاباك” على تصريحات سموتريتش وعبّروا عن صدمة كبيرة: “في هذا اليوم بالذات، اختار مسؤول منتخَب تشويه سمعة منظّمة مهمّتها حماية أمن الدولة”.
كانت محكمة إسرائيلية برّأت في عام 2010 ساحة عميل “الشاباك” الإسرائيلي أفيخاي رفيف، المكنّى “شمبانيا”، من تهمة إخفاء معلومات تتعلّق بمخطّط اغتيال رابين.
بايدن “غاضب”؟
في سياق نتائج الانتخابات كان لافتاً أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن لم يهنّئ نتانياهو على فوزه بالانتخابات حتى الآن. ووصفت القناة 12 العبرية هذا الأمر بـ”الإشارة المقلقة من الولايات المتحدة”، لافتةً إلى أنّ السفير الأميركي لدى الاحتلال توم نيدس اتّصل بنتانياهو، لكنّ الرئيس نفسه لم يتّصل بعد ولم يهنّئ نتانياهو. وتأتي هذه الإشارة بعد عدّة رسائل تلقّتها تل أبيب من واشنطن قبيل الانتخابات مفادها أنّ الأميركيين سيجدون صعوبة في التعاون مع الوزارات التي يرأسها إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وأنّ مثل هذا التعاون، إن وجد، فسيكون محدوداً.
إقرأ أيضاً: نتانياهو ملكاً على إسرائيل
الصحافي الأميركي توماس فريدمان حذّر من التداعيات الخطيرة لتشكيل حكومة نتانياهو اليمينية المرتقبة، التي سترتكز على المتديّنين والقوميين المتطرّفين. وقال فريدمان في مقال نشرتها صحيفة “هآرتس” إنّ “الائتلاف الذي يركب على ظهره نتانياهو في عودته إلى الحكم هو الائتلاف الإسرائيلي الموازي للكابوس الأميركي الذي يتناول سيناريو عودة انتخاب دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية 2024، وتعيين رودي جولياني في منصب النائب العامّ، ومايكل فلين في منصب وزير الدفاع، وستيف بينون في منصب وزير التجارة، وزعيم الإنجيليين جيمس دوبسون وزيراً للتعليم، وإنريكي تاريو، الزعيم السابق لمنظمة براود بوير، وزيراً للأمن القومي، ومارغرو تايلر غرين متحدّثة باسم البيت الأبيض”. وتابع: “تخيّلوا أنّكم استيقظتم واكتشفتم ذلك، فإنّكم كنتم ستقولون: هذا مستحيل”.
*كاتبة فلسطينية