انتخابات 2022 هي الانقلاب السياسي الثاني الأكثر خطورة بعد انقلاب عام 1977 الذي صعد إثره حزب الليكود بزعامة مناحيم بيغن إلى رئاسة الحكومة على حساب حزب العمل المؤسّس الأوّل للكيان الصهيوني، الأمر الذي يشير إلى تحوُّل الصهيونية الدينية الاستيطانية من هوامش المشروع الصهيوني إلى مركز قيادة المشروع، بحيث باتت متقدّمة على حزب المعسكر الوطني، الذي يقوده رئيسان سابقان لأركان جيش الدفاع الإسرائيلي.
توّج الإسرائيليون بنيامين نتانياهو ملكاً على إسرائيل، بعد فوز معسكره بأغلبية 64 مقعداً في الكنيست المؤلّف من 120 مقعداً. هكذا عاد نتانياهو على رأس تكتّل لا يسمح بوجود فارق بين “الصهيونية العلمانية” و”الصهيونية الدينية” بقيادة بن غفير. هذا التحالف يعكس حقيقة المشروع الصهيوني بوضوحٍ شديد وبدون أقنعة، ويشكّل نجاحاً مدوّياً في استغلال سياسات الهويّة لدى جمهور واسع، متديّن وقومي وحريدي، يعتبر مشاركة العرب في الحكم في إسرائيل خطّاً أحمر، وخطيئة لا تُغتفر. لقد عزف نتانياهو وشركاؤه جيّداً على وتر العنصرية عبر نشر ادّعاءات عن 53 مليار شيكل حوّلتها حكومة نفتالي بينيت ويائير لابيد إلى الوسط العربي قائلين: “منحوها للإخوان المسلمين وحماس”.
من الواضح أن لا مجال بعد اليوم للحديث عن “يسار” إسرائيل، فلقد تحوّل حزب العمل وميرتس إلى منظمات مجتمع مدني
تأكّد بالوقائع وبالملموس انزياح إسرائيل، نظاماً ومجتمعاً، من اليمين إلى اليمين المتطرّف، وأنّ التيار القومي والديني أصبح الحاضنة والدفيئة الملائمة لحكم الفاشية الجديدة في إسرائيل، ولم تعد هذه المسألة محل توقُّع أو تخمين. وسيؤرَّخ لهذه الانتخابات بأنّها الانقلاب” اليميني” الأكبر والأخطر بعد انقلاب انتخابات عام 1977 بقيادة مناحيم بيغن.
الأرقام أصدُق إنباءً
أصدرت لجنة الانتخابات الإسرائيلية النتائج النهائية لانتخابات الكنيست الـ 25 بعد فرز 100% من الأصوات، وقد حصل حزب الليكود على 32 مقعداً، مقابل 24 مقعداً لأقرب منافسيه حزب يائير لابيد الذي يرأس حكومة تصريف الأعمال، وفازت “الصهيونية الدينية” بـ14 مقعداً، والمعسكر الوطني برئاسة وزير الجيش بيني غانتس بـ12 مقعداً، في حين أظهرت النتائج أنّ حزب “ميرتس” فشل نهائياً في تجاوز نسبة الحسم وبات خارج البرلمان الإسرائيلي.
اليسار الإسرائيلي صار مُجتمعاً مدنياً
من الواضح أن لا مجال بعد اليوم للحديث عن “يسار” إسرائيل، فلقد تحوّل حزب العمل وميرتس إلى منظمات مجتمع مدني. يقول الكاتب يوسي ميلمان في “هآرتس”: “اليسار والوسط هما عِرق آخذ في الانقراض في المجتمع الإسرائيلي. هذا ليس فقط موضوع مقاعد وأرقام في نتائج الانتخابات، بل يدور الحديث عن شيء أعمق، عن عمليّة مستمرّة منذ سنوات تغيّر وجه المجتمع الإسرائيلي. من مظاهر التغيير انتشار القومية المتطرّفة والعنصرية وكراهية الآخر والكهانية والمسيحانية والتوق إلى زعيم مستبدّ ومتديّن والاستقواء العسكري وتأييد الاحتلال واحتقار سلطة القانون والشرطة والقيم الليبرالية الغربية”.
من جهتهم، وجّه مسؤولون في أحزاب “كتلة التغيير”، التي شكّلت الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايتها، انتقادات شديدة إلى رئيس حزب “ييش عتيد” يائير لابيد، واتّهموه بإدارة “مهملة” لانتخابات الكنيست ما “حرق” مئات آلاف الأصوات، وحمّلوه مسؤولية فوز أحزاب اليمين بقيادة بنيامين نتانياهو في الانتخابات.
أشار إلى ذلك محلّل الشؤون الحزبية في صحيفة “هآرتس”، يوسي فيرتر، إلى أنّ “نتانياهو سيشكّل الحكومة، لكنّه سيكون رئيس حكومة بن غفير”. وأضاف أنّ “بن غفير، أكثر من نتانياهو، نقل أصواتاً من كتلة “فقط ليس بيبي” إلى كتلة “بيبي فقط”. وبن غفير، وليس نتانياهو، فرض سحره على الجنود، والشبّان الذين يصوّتون للمرّة الأولى، وهم من غير المبالين والكسالى.
انتخابات حكمها الخوف والقلق
لقد قام نتانياهو وتحالفه بإدارة حملة انتخابية بهلوانية استفادت من كلّ عناصر الخوف والقلق والتفوّق في الشخصية اليهودية والثقافة الإنجابية في الكيبوتسات. وانخرطت حملة تحالف نتانياهو في تشويه مَرَضيّ للواقع عبر التحذير من خطر متخيَّل ومختلَق سببه فقدان الهويّة اليهودية والطابع اليهودي لدولة إسرائيل تحت حكومة لابيد. وحملت أبرع لافتة علّقها “الليكود” في كلّ الأماكن بألوان سوداء العنوان التالي: “خلص، اكتفينا”، وضمّت صورة ليائير لابيد ومنصور عباس وأيمن عودة . لقد التقط الإسرائيليون الصورة، وليس من المبالغة القول إنّها قد تكون السلّم الذي صعد عليه معسكر نتانياهو إلى الفوز.
من حقّ نتانياهو أن يتبختر كالطاووس، فقد كان الساحر الذي مشى على كلّ الحبال، ومنها حبال القضاء، من دون أن يسقط، وصولاً إلى عرش إسرائيل أكثر من مرّة. منذ سنوات يقف نتانياهو على رأس حركة اتّخذت لها هدفاً هو استهداف جهاز القضاء من أجل إلغاء محاكمته بتهم فساد خطيرة. وتعهّد حليفه رئيس الصهيونية المتدينة بتسلئيل سموتريتش في حملته الانتخابية بالعمل على إلغاء مخالفات الاحتيال وخيانة الأمانة، فيما تعهّد بن غفير بإلغاء المحاكمة برمّتها من خلال “القانون الفرنسي” الذي يعني منع محاكمة رئيس حكومة أثناء ولايته. ويرى بتسلئيل سموتريتش وغيره أنّه على مدى اثني عشر عاماً من حكم نتانياهو لم يستطع هذا الأخير أن يحكم بسبب تدخّل القضاة في أعمال الحكومة. وهذا بيت القصيد في مجزرة القضاء المقبلة، إذ يعتبر بتسلئيل سموتريتش أنّ اليمين في الحكم بلا صلاحيّات بسبب القوانين وسيطرة رجال ليسوا من اليمين، ولذا يجب اقتلاعهم وتغيير منظومة القوانين نحو سيطرة كاملة.
إقرأ أيضاً: فوز اليمين الإسرائيلي: نعم للصهيونية الدينية ولا حلّ مع الفلسطينيين
تخلص صحيفة “هآرتس” إلى أنّه إذا كان من أمر يمكن استخلاصه في هذه الانتخابات فهو شرعنة الكهانية، والمؤلم في الأمر أنّ الجمهور اليهودي في إسرائيل سيواجه اختياراً حازماً وقاطعاً بين قيمتين أساسيّتين أُقيمت على أساسهما دولة إسرائيل. هذا الاختيار غامض من حيث الوضوح: “نعم” لليهودية وللتفوّق اليهودي، و”لا” للديمقراطية. أغلبية اليهود في دولة إسرائيل غير معنيّين بالديمقراطية الحقيقية، بل بالدولة اليهودية، فليس مهمّاً إعطاء حقوق زائدة لمجموعة معيّنة مع حرمان مجموعات أخرى من الحقوق، ولا سحق قيمة المساواة بين مواطني الدولة، التي هي ربّما القيمة الأساسية الأولى في أيّ ديمقراطية ناجعة. من هو الإسرائيلي بالنسبة إليك؟ إنّه العنصري من دون خجل في إسرائيل 2022.
*كاتبة فلسطينية