قمم العرب بين الملل والغياب

مدة القراءة 6 د

أن تُعقد قمّة عربية فهذا حدث بحدّ ذاته بعدما منعت الموانع، ومنها الجائحة، عقد القمّة لثلاث سنوات. ومع ذلك فلا مؤشّرات تبشّر بأنّ القمّة التي تلتئم في الجزائر، الثلاثاء والأربعاء، ستكون استثنائية لافتة، ولا من مبرّر موضوعيّ أساساً لتكون كذلك.

 

خلافات وحرد

يحضر القادة الأوروبيون جميع قممهم داخل الاتحاد الأوروبي. ولا يُذكر أنّ زعيماً من دول هذا الاتحاد قد تخلّف عن الحضور أو مارس حَرَداً رغم الخلافات بين الدول الأعضاء. صحيح أنّ من غير المفيد مقارنة ما أنجز “اتّحادهم” بما أنجزت “جامعتنا”، إلا أنّ ما ندر عندهم هو من عاديّات القمم عندنا.

لا يهتمّ المواطن العربي “من المحيط إلى الخليج” بما يمكن أن تحمله القمم إليه. يعيش المواطن في أوروبا حقوقه وواجباته ومستويات عيشه وديناميّات اقتصاده وفق ما يقرّره “الاتحاد” ببرلمانه ومؤسّساته وقممه. بالمقابل، إذا استثنينا قمماً مفصلية تاريخية لافتة منذ قيام جامعة الدول العربية عام 1945، فإنّ مؤشّر نجاح القمم العربية بقي مرتبطاً بمستوى الحضور وقصص التغييب ونميمة الكواليس. وفي الجزائر من يبشّرنا في هذه الساعات أنّ وزراء الخارجية توافقوا على البيان الختامي بصفته مؤشّر نجاح.

تعيش سوريا واليمن والسودان وليبيا ولبنان والعراق (وقد تطول اللائحة) براكين متفاوتة في قدراتها على الفتك والدمار

لا يوحي وضع المنطقة العامّ بنجاح قمّة الجزائر في “لمّ شمل” العرب وفق شعار وطموحات البلد المضيف ورئيسه عبد المجيد تبون. تغيّر مزاج العواصم العربية وطريقة عملها بحيث لم يعد من تعويل أيديولوجي، بات متقادماً، على نظام عربي موحّد يضمّ كلّ أعضاء الجامعة العربية بالجملة للتعامل مع التحدّيات المختلفة التي تواجه هذه الدولة أو تلك بالمفرّق. حتى إنّ تلك المواجهة باتت تعتمد على استراتيجيات ذاتية غير آبهة بالجسم السياسي العربي الكامل وجامعته العتيدة.

 

فلسطين في الجزائر

تعيش سوريا واليمن والسودان وليبيا ولبنان والعراق (وقد تطول اللائحة) براكين متفاوتة في قدراتها على الفتك والدمار. يتولّى ممثّلون أمميون ودوليون التوسّط هنا وهناك، وتغيب “الجامعة” وحتى العواصم العربية عن أيّ دور وسيط شبيه بما سبق أن قامت به في لبنان مثلاً، فأنتج إرسالاً لقوات عربية مرّة وأنتج اتفاق الطائف مرّة أخرى. إضافة إلى أنّ أجندات الدول العربية تتباين داخل ميادين الصراع هذه، وتختلف أيضاً في موقف المنطقة من إيران وتركيا كما من الاتفاقات الإبراهيمية مع عدد من الدول العربية.

يُحسب للجزائر سعيها الصادق إلى إنجاح القمّة العربية المقبلة. في الشكل ستكون أوّل قمّة رقميّة لا تُستخدم فيها الأوراق مع أنّ ذلك لن يغيّر من علّة الجامعة وقممها. وفي المضمون تودّ الجزائر استعادة مكانة وبريق عربيَّين لطالما كانت تتمتّع بهما في عهد الرئيس هواري بومدين قبل أن تحشرها “العشرية السوداء” (1991-2002) في الهمّ الداخلي وتبعدها من لعب أدوار خارجية، ولا سيّما عربية. ولئن أرادت الجزائر “استعراض” مصالحة فلسطينية من دون أيّ ثقة أنّها لن تكون فاشلة كالمصالحات السابقة، فالقصد هو التمهيد للقمّة عبر ملف فلسطين في رسائل متعدّدة المعاني والمغازي.

غير أنّ بديهيّات ما سيُطلَب من الدولة المضيفة التي تطمح إلى “لمّ الشمل” العربي هو أن تسعى جدّيّاً إلى لمّ الشمّل مع جارها المغرب الذي ما انفكّ ملكُه محمد السادس يكرّر ويلحّ في الطلب من الجزائر طيّ الصفحة عبر الحوار وإعادة التطبيع الكامل لعلاقات البلدين. وحتى ما أُشيع قبل أشهر عن احتمال حضور العاهل المغربي القمّة في الجزائر لم تقابله حماسة وهمّة جزائريّتان تتجاوزان مستوى الدعوة البروتوكولية الرسمية التي وجّهها الرئيس الجزائري إلى الملك الغربي.

يُحسب للجزائر سعيها الصادق إلى إنجاح القمّة العربية المقبلة. في الشكل ستكون أوّل قمّة رقميّة لا تُستخدم فيها الأوراق مع أنّ ذلك لن يغيّر من علّة الجامعة وقممها

خلافات مع الجزائر

قد يكون غياب بعض قادة الدول، ولا سيّما الخليجية منها، تقنيّاً لا يختلف عن ظواهر الغياب التي شهدتها قمم سابقة. وقد يكون صحّيّاً أنّ صحافة الدول التي سيتغيّب زعماؤها، كما الصحافة الجزائرية، لم تُسيِّس هذا التغيُّب ولم يُفهم منه موقف حَرَد من الجزائر. لكنّ الأمر يسلّط المجهر على اختلاف رؤى عربية مع سياسات الجزائر، سواء في معاندة موقف الأخيرة للموقف العربي من إيران وحزب الله، أو من خلال تركيز حملة دبلوماسية مستفزّة لإعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية والترويج لدعوة الرئيس السوري لحضور القمّة، أو من خلال تناقض الأجندات في ليبيا، أو من خلال تباين الموقف العربي مع موقف الجزائر في مقاربة مسألة الصحراء الغربية والموقف من البوليساريو.

يجدر تأمُّل ما شهدته المنطقة خلال الأعوام الأخيرة من قمم استثنائية جزئية ثلاثية أو رباعية أو أكثر عُقِدت في العقبة وشرم الشيخ وعمّان وبغداد والعلَمَين ومدن أخرى، إضافة إلى تلك التي انعقدت في جُدّة لمناسبة زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن في تمّوز الماضي. والواضح أنّ تلك القمم لم تكن ترفاً أو روتينيّة، بل انعقدت لحاجات ومصالح ملحّة في الأمن أو الدفاع أو السياسة أو الاقتصاد على نحو أكثر نجاعةً ونفعاً من أيّ قمم عربية شاملة تُصدر بيانات تخضع لمخاض أبجديّ مملّ.

 

غياب بعض القادة

وإذا ما تهتمّ أوساط القمّة بلائحة المتغيّبين وتكشف مصادرها عن غياب معلن لـ 6 قادة عرب (السعودية، الإمارات، عُمان، الكويت، البحرين، لبنان)، فيجدر التذكير بأنّ أوّل من أعلن عدم الحضور (في 4 أيلول) هو الجانب السوري لرفع الحرج عن الجانب الجزائري الذي انخرط في مغامرة متسرّعة حين دعا الرئيس السوري إلى حضور القمّة على نحو بدا وكأنّه فرضٌ لأمرٍ واقعٍ جوبه باعتراض ورفض عربيَّين حاسمَين.

إقرأ أيضاً: لمّ الشمل الجزائريّ… قبل الشمل العربيّ!

الأرجح أنّ قمّة الجزائر هي عيد جزائري يوافق (وربّما عن عمد) عيدها الوطني في الأوّل من تشرين الثاني. تروم الجزائر من الحدث تعويم دور إقليمي – دولي تطلّ منه على ملفّات العالم. والأرجح أنّه إذا لم تحصل مفاجأة ما (حضور الملك المغربي مثلاً) فإنّ القمّة لن تكون في سجلّ القمم إلا حدثاً روتينياً قد لا يُحدِث أيّ تحوُّل يُذكَر يؤثِّر على العالم العربي ومواطنيه.

 

*كاتب لبناني مقيم في لندن

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…